شهدت الأيام القليلة الماضية نشاطاً خارجياً مكثفاً للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وبالأخصّ في قارة أوروبا. جاءت الزيارة الأولى إلى بودابست، العاصمة المجرية لحضور تجمع V4 (ڤايشغراد) لرباعي شرق ووسط أوروبا، فيما جاءت الزيارة التالية إلى العاصمة اليونانية أثينا لحضور جولة جديدة من لقاءات آلية التعاون الثلاثي بين مصر واليونان وقبرص.
كذلك، فقد شهدت هذه الأسفار للرئيس المصري زخماً ملحوظاً، سواء كان على مستوى التغطية الإعلامية، أو التصريحات الرسمية الصادرة خلالها، أو جدول الأعمال وما خلصت إليه تلك الزيارات.
في هذا المقال نحاول تقديم عرض بانورامي سريع، نشرح فيه ملابسات تلك الزيارات، وأسبابها وسياقاتها، وعلاقتها بمساعي النظام المصري الجديد بعد 3 يوليو/تموز 2013، لتكوين تكتلات سياسية جديدة مع دول تتوافق معه إلى حد كبير، أيديولوجياً وسياسياً في الوقت الحالي، حتى لو لم تكن علاقات مصر الدبلوماسية تاريخياً معها على ما يرام.
فايشغراد.. ما علاقة إسرائيل؟!
قد يبدو الحديث عن إسرائيل في هذا السياق الذي نشير من خلاله إلى زيارة الرئيس السيسي إلى المجر من أجل حضور قمة مصر مع الرباعي الأوروبي، التشيك وسلوفاكيا والمجر وبولندا غير مفهوم في البداية، ولكن للموضوع جذور معتبرة، سنحاول تقريبها للقارئ الذي يسمع -ربما- لأول مرة عن ذلك التحالف.
تاريخياً، كانت لتلك المجموعة من الدول علاقات مشتركة جيدة، استناداً إلى عدة عوامل، على رأسها الجغرافيا الثقافية والسياسية والاقتصادية، وتصنيف العدائيات المشتركة بدايةً من النمسا مطلع القرن الماضي، إلى روسيا، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي واستقلال عدد من تلك الدول عنه، بما في ذلك التشيك وسلوفاكيا.
عُرف هذا التحالف الرباعي في أوساط السياسة المهتمة بدواليب أوروبا، بأنه تحالفٌ انكفائي دفاعي إلى حد كبير، مبني في الأساس على سرديات نفسية وقومية وعرقية وطائفية تحذر من "الآخر"، سواء كان ذلك الآخر من الدول التقليدية في أوروبا الغربية أو روسيا، وذلك بالرغم من كون الدول الأربع أعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
ففي الاتحاد الأوروبي يُنظر إلى هذا التجمع (فايشغراد) على أنه تكتل من الدول المتأخرة، ليس في مجالات الاقتصاد والإنتاج فقط، بل في أهم ما يميز القارة الأوروبية عن غيرها: الثقافة والسياسة، ما جعل هذا التكتل بصفته أو كلّ دولة على حدة عرضةً دائمة للانتقادات والعقوبات من الاتحاد الأوروبي، بسبب مروق ذلك التكتل الشرقي عن القيم الأوروبية، بما في ذلك المعاهدات المنظمة لشؤون الاتحاد ودهاليز السياسة والاقتصاد، التي تشهد فيها هذه الدول ممارساتٍ لا تعرفها أوروبا الغربية إلا في الظل.
فما يحدث في ليل أوروبا الحالك من أنشطة غير مشروعة وسياسات محافظة، يحدث في تلك الدول جهاراً نهاراً كتقليدٍ ثقافي واجتماعي.
المهم أنه في هذا السياق لم ينجح هذا التحالف الانكفائي، بطبيعة الحال، في تكوين علاقات طبيعية ممتدة، سواء كان مع دول أوروبا الغربية أو روسيا. ولم يُعرف له في الأوساط الدبلوماسية المعاصرة حليفٌ سياسي، بقدر دولة الاحتلال الإسرائيلي.
يفسر محللون سياسيون هذا التحالف بين دول أوروبا الشرقية الأربع، ومعها رومانيا وبلغاريا من جهة، وبين دولة الاحتلال من جهة أخرى، بأنّ إسرائيل تاريخياً طالما كانت تنظر إلى تلك المنطقة باعتبارها جزءاً مهماً مما يعرف باستعارة بيولوجية وسياسية بـ"مجالها الحيويّ".
فلا يترقى ضابط إسرائيلي أمني بشكل مباشر أو عامل في مجال الأمن والدبلوماسية إلا بعد أن يكون له باع في تلك المنطقة، سواء في العلاقات أو في العمليات التي تنفذها أجهزة الأمن الإسرائيلية، وبالأخصّ الموساد، حيث كانت إسرائيل تنظر لها، أيضاً، كموردٍ مهم للهجرات اليهودية إليها.
في المقابل، فقد وجد هذا التحالف في إسرائيل عدداً من العوامل الجذابة، كالعلاقة مع واشنطن، والمنتجات الأمنية (خاصة الرقمية)، التي تخضع عادة لرقابة وقيود صارمة من دول الاتحاد الأوروبي، والطابع القومي المتحسِّس من الآخر، لاسيما إذا كان هذا الآخر مهاجراً غير شرعي أو مسلماً محافظاً، ويزيد محللون أنهم وجدوا في دولة الاحتلال نموذجاً فعالاً للتغلب على مشكلات الديموغرافيا، إذ تعاني هذه الدول من عجز سكانيّ بشكل ملحوظ، زيادة في الوفيات مقابل قلة واضحة في المواليد، مع تحفظات كثيرة، في نفس الوقت، على استقبال المهاجرين.
لم تحظَ الزيارة الأولى للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عام 2017 إلى هذا التجمع، مصر فايشغراد، بنفس ذلك الزخم الذي شهدته تلك الزيارة الأخيرة، وذلك لأسبابٍ كثيرة، على رأسها عدم تبلور نوايا النظام المصري إزاء تلك المنطقة بشكل واضح آنذاك.
ما علاقة حقوق الإنسان؟
الأجندة التي تجمع هذا التحالف الأوروبي الرباعي بالنظام المصري، هي نفس الأجندة التي تؤسس لفكرة التحالف، وهي نفس الأجندة التي جعلت هذا التحالف منبوذاً في أوروبا، قريباً من دولة الاحتلال، حتى إنه كان مقرراً أن تعقد أول قمة خارج الرباعي من نوعها في إسرائيل عام 2019، لولا خلاف دبلوماسي طرأ بين الأخيرة وبين أحد أعضاء ذلك الحلف؛ بولندا.
تقوم تلك الأجندة على البحث الدائم عن حلول لمشكلات: الهجرة غير الشرعية، ومنع تدفق الأسلحة منها إلى جماعات الإسلام السياسي، سنية كانت أم شيعية، وسبل التعامل مع الضغوط الأوروبية المتعلقة بضرورة تحسين أوضاع الحريات السياسية والمدنية في تلك البلدان، وهي نقطة الالتقاء بينها وبين النظام المصري الحالي، وإسرائيل قبل ذلك.
يقدم نظام السيسي نموذجاً غريباً لحقوق الإنسان، فبينما يشير ذلك المركب الإضافي "حقوق الإنسان" في العرف السياسي عادة إلى حالة الحريات السياسية والمدنية في البلاد؛ فإنّ السيسي يروج إلى أنّ كثيراً من البلدان، بما في ذلك دول الشرق الأوسط ومصر، أبعد ما تكون عن القدرة على تطبيق هذا المفهوم بهذه الصيغة، بما يحيل دلالات المفهوم إلى حقوق بدائية أقلّ وزناً، كالحقّ في الحياة والأمن والاستقرار والعمل والسكن، وفقاً لنصّ كلامه، وهو ما وجد تماسّاً بينه وبين تلك الدول.
يقول السيسي إنّ منطقة الشرق الأوسط، ومصر، لم تعد تحتمل أيَّ تجارب سياسية جديدة، من الإسلام السياسي الذي يعتبره السيسي تجميلاً لقوى الإرهاب والتطرف والرجعية، التي تهدد الاستقرار، بما في ذلك في أوروبا، أو من التيارات اليسارية والليبرالية التي تبشر بأحلام لا تتلاءم مع الطبيعة البدائية لمجتمعاتنا الشرقية، كما ذكر في لقائه مع ماكرون قبل ذلك.
ما يريده السيسي أن يروج من خلال ذلك التحالف النافذ في أوروبا مؤسسياً إلى أيديولوجيته القومية واليمينيَّة الجديدة، التي لا ترى حلاً ناجعاً لإدارة بلادنا إلا الحكم العسكريّ، بالحديد والنار، وأن يُسوق من خلال ذلك التحالف لنجاح تجربته خلال الـ7 أعوام الماضية في تقويض العنف الإسلامي والهجرة غير الشرعية، وتدشين المشروعات العملاقة التي تمثل أحد أوجه حقوق الإنسان في نظره، طالباً الدعم، ومهدداً من البديل الذي قد يضرب أوروبا، إذا لم تتوقف عن نقد أوضاع حقوق الإنسان في مصر.. العنف والإرهاب وقوارب الفقر والتخلف، التي حدّ السيسي من خطرها على أوروبا -دون ابتزاز على حدّ زعمه- حتى الآن.
ومن الواضح أن الفريق الرئاسي للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يدشن مشاريعه العملاقة، واضعاً في الاعتبار أثر هذه المشروعات على ترويج سردية تقديم السيسي مفهوماً جديداً عن حقوق الإنسان، فمنذ أن دشن السيسي مشروع "حياة كريمة" لا يترك مناسبة في الخارج إلا ويتساءل: ألم تلاحظوا أننا ندشن مشروعاً عملاقاً لتغيير حياة 60 مليون مصري في الريف، بقيمة 600 مليار جنيه، خلال 3 سنوات، لِمَ تحصرون حقوق الإنسان في مفهوم ضيق عن التظاهر وتكوين الأحزاب والمعارضة في الإعلام؟ يقول السيسي!
حصار تركيا
يحمل ذلك التحالف المشار إليه؛ فايشغراد، وجهة نظر مناوئة لتركيا المعاصرة، بشكل مباشر، وذلك على أساس أن تركيا اليوم تمثل بشكل من الأشكال امتداداً لإرث الدولة العثمانية التي اشتبكت تاريخياً مع هذا الرباعي من جهة، ومن جهة أخرى على أساس أن أنقرة تتبنى سياساتٍ ثقافية بعيدة عن أجندة هذا التحالف، بما في ذلك محاربة الإسلاموفوبيا مثلاً.
لذلك كانت زيارة السيسي إلى بودابست قد فسرت ضمن إحدى زوايا النظر، أنها محاولة أيضاً إلى التماسّ مع تحالف لا يساعد السيسي في تجميل صورته حقوقياً في أوروبا فقط، وإنما يساعده أيضاً في تحجيم النفوذ التركي، اتصالاً بعلاقة ذلك التحالف الطيبة بإسرائيل، وتحفُّظه على سياسات تركيا، ومحاولات السيسي السابقة تدشين تحالفات سابقة لنفس الغرض في أوروبا وآسيا، مع اليونان وقبرص، ثم الأردن والعراق.
ثم جاءت زيارة السيسي التالية إلى أثينا مباشرة لتؤكد هذه الرسالة، والتي شهدت أعمال القمة التاسعة لآلية التعاون الثلاثي بين مصر واليونان وقبرص، والتي أسفرت بدورها عن توقيع اتفاقية الربط الكهربائي المشتركة، بعد أن وقع نفس الثلاثي من قبل، كل على حدة، على اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية، التي تخلص إلى محاولة عزل وحصار تركيا في منطقة شرق المتوسط.
وهو ما دفع أنقرة إلى إصدار بيان رسمي، تردّ فيه على مخرجات تلك القمة، معتبرة أن أي تحالف جيوسياسي، يقوم على إقصائها، لن يُكتب له النجاح، وملمحة إلى الطابع "العدائي" لتلك القمة، ملقيةً باللوم على القاهرة التي ما زالت تستمرئ العداء لتركيا، بالرغم من بوادر حسن النية التي قدمتها الأخيرة لحلحلة هذا التحالف الثلاثي في شرق المتوسط، وإقناع مصر أن مكاسبها في التحالف مع تركيا أكبر من التحالف مع أي أطراف أخرى.
إلى الآن، تؤكد هذه المعطيات صحة تقدير الموقف الذي خلصنا إليه منذ أكثر من عام، وهو أن كفة ما أرساه النظام المصري من جذور لمأسسة العداء مع تركيا، بما في ذلك اتفاقيات الترسيم وآليات التعاون والمناورات المشتركة ومنتدى الغاز والربط الكهربائي، أرجحُ من الحوافز التي تحاول أنقرة إغراء القاهرة بها مستغلةً رغبة الإدارة الأمريكية الجديدة في خفض التصعيد في عدة جهات بالمنطقة للتفرغ إلى مناطق أخرى أكثر أهمية.
لا تزال العلاقات الثنائية بين البلدين بعيدة كثيراً عن المستوى المأمول، ولا يزال النظام المصري مستمراً في استراتيجيته الهادفة إلى تطويق تركيا خارجياً من أكثر من جهة، دون التورط في مواجهتها وحيداً، وذلك من خلال التحالفات الإقليمية، على غرار ڤايشغراد وشرق المتوسط والشام الجديد.. فإلى متى تستمر تركيا في خطب ود النظام المصري دون مكاسب ملموسة؟!.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.