بالتأكيد لا فناء لثائرٍ، ولكن يصعب علينا أن نودّع ثائراً بجسده، وإن عاشت فكرته دهراً، فنحن شعب انفطرت قلوبنا من فقدنا المتكرر لنماذج أحرار كانوا عناوين الصبر والصمود والمقاومة، ولا يأتي الفقد بمعنى الموت الأبدي دائماً، فقد يكون الفقد جزئيّاً باعتقال الأحرار وتغييبهم في سجون الاحتلال لسنوات طويلة، لأنهم قاوموا الاحتلال رغم قانونية مقاتلة أي احتلال وفق الأعراف الدولية.
ولكن الأصعب أيضاً أن يتم اعتقالك لأن الاحتلال يريد اعتقالك فقط، وهو ما يسمى بالاعتقال الإداري، أي بلا تهمة، أمر احترازي، يقرره الشاباك وأجهزة المخابرات الإسرائيلية ضد مئات الفلسطينيين ويعتقلهم في سجونه بلا مبرر، وهو أمر يخالف القوانين الدولية، ولكن لا حياة لمن تنادي.
منذ سنوات شرع الأسرى الفلسطينيون المعتقلون تحت بند الاعتقال الإداري في خوض تجربة الإضراب عن الطعام، مقابل كسر هذا الاعتقال والإفراج عنهم، نجحت كافة محاولات الأسرى وانصاع الاحتلال لهم بعد أن قرروا مجابهته بأمعائهم الخاوية، ولكن الاحتلال لا يؤتمن جانبه دوماً.
يواصل 6 أسرى معتقلون إدارياً إضرابهم عن الطعام، منهم مَن وصل لأكثر من 100 يوم! تخشى عوائلهم فقدانهم بالموت بعد تعنت الاحتلال بعدم الإفراج عنهم، مقابل إصرارهم على مواصلة الإضراب، مهيئين أنفسهم بين طريقين، إما النصر أو الارتقاء في سبيل الله.
لا يختار الثائر أن يموت بإرادته، ولكن الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود كان أبلغ مَن عبّر عن مكنونات الإنسان الفلسطيني في مواجهة الاحتلال عندما قال أبياته الشعرية الشهيرة:
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسرّ الصديق
وإما ممات يغيظ العدا
فلا معنى للحياة التي يكون فيها الإنسان محكوماً عليه بالموت البطيء (السجن) إلا أن يقاتل ولو بأصعب الوسائل، حاملاً روحه على كفه دون مهابة، مطالباً بالعدالة التاريخية لقضية وطنه وقضيته، فلم يجد الفلسطيني إلا وسيلة الإضراب عن الطعام والاكتفاء بالماء فقط للانتصار لنفسه وتحرير شخصه من براثن الاعتقالات الإسرائيلية؛ ليكملوا حياتهم ككل العالم.
فمنهم مَن يحرمه الاعتقال الإداري من مواصلة تعليمه وعمله، ومنهم مَن يُحرم من أطفاله لسنوات ويتغيب عن عائلته قسراً، متغيّباً عن كل قضية اجتماعية تعايشها العائلة، فلا مهانة يمكن أن يتعرض لها الإنسان بعد امتهان كرامته بمصادرة حريته، لذلك لا يتردد الأسير الفلسطيني في أن يخوض هذه التجربة الصعبة والمريرة، التي يتوقع فيها الإنسان أن يلقى مصير الموت، ولكن الكرامة والحرية ثمينتان جداً.
ونحن عندما نتحدث عن المضربين عن الطعام لا نتحدث عن شخوص ليسوا فاعلين في المجتمع، إنما منهم الناشط الشبابي صاحب البصمة الجميلة مقداد القواسمي، والمهندس الفذّ علاء الأعرج، وكاتب الأناشيد شادي أبو عكر وآخرون، كل منهم له حياته وشخصيته وبصمته.
لا يُعاب على الإنسان مقاتلته لعدوّه سالب وطنه وحريته بأصعب الوسائل، إنما يُعاب على المستوى الرسمي والشعبي الذي يترك الأسرى يخوضون أصعب المعارك وحيدين، يُعاب على العالم بأسره الذي يرى معاناة الفلسطيني وما زال يغضّ الطرف عن ذلك، ليس إيماناً منهم بحق الاحتلال على أرض فلسطين، إنما خوفاً من القوة، فالعالم لا يحترم إلا الأقوياء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.