نحن نعيش في عصر التفاهة، حيث حفل الزفاف أهم من الحُب، ومراسم الدفن أهم من الميت، والمعبد أهم من الله.
الجملة الافتتاحية السابقة كتبها الكاتب الأوروغوياني "إدواردو غاليانو" لتكون أحد أدق التعريفات التي تشرح أزمة العالم منذ بداية الألفية الجديدة حتی الآن.
جُل الأشياء والظواهر في عالمنا باتت تظهر وتختفي بلا أي أثر تقريباً، بسبب انغماسنا في نقاشات وحوارات هامشية، لا تسمن ولا تغني من جوع.
في هذه الأيام صار من المستحيل التطرق للأمور الجادة إلا من خلال الكثير من الهزل والضحك، ضحك كالبكاء، إما بسبب قيود السلطة أو لتخفيف الصدمة التي تأتي بها كل قضية على المعنيين بها.
مخلفات الرأي العام
في عصرنا الحالي صارت وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة هي الوسيط الإعلامي، منابر الحديث، والمجال العام. وعلی حسب النسق العام يمكنك أن تختار الجهة التي تتوافق مع وجهات نظرك، ولكن من المؤسف أن هذه المقدمة لا تعبر إلا عن أتفه الأمور التي بتنا مُجبرين على نقاشها، ليس بسبب خلو الأجواء العامة من القضايا المهمة، ولكن بسبب القبضات الحديدية المتعددة التي تفرض "التريند" وتقمع حرية الرأي والتعبير.
في الصحافة الورقية مثلاً، لا يمكنك توجيه اللوم لمسؤول أو حكومة علی أي شيء، لأنك ببساطة ستتعرض للإيقاف عن العمل والتحويل للتحقيق، وإن كنت تعيس الحظ سيتم فصلك. وفي جميع الأحوال، فإنك لن تنعم بليلة هادئة في بيتك بعد اللحظة التي تقرر فيها فضح انتهاك هنا أو هناك أو كشف فاسد في منصبه يمتلك بعض السلطة.
قمع الحريات في مصر بات أخطبوطاً تغطي أذرعه كل ناحية وزاوية. يمكن تقفي أثر الكبت العام على كل مجموعة بداية من الأسر التي تتكون من 4 أفراد فيما فوق والتي يلعب فيها الأب دور السلطة بامتياز، وتقوم الأم بمواءمات وتفاهمات لكنها تمارس ذات الدور وإن بدرجة أقل من الأب. مما يجعل الأطفال الفئة الأضعف في مجتمعنا، وبالطبع هذا كفيل بتبرير الأغلبية العظمى من حوادث الانتحار خلال الفترة الماضية التي كان ضحيتها شباباً أكبرهم لم يتجاوز 24 سنة!
تتدرج السلطة في مصر من أسفل الهرم لأعلی، وتتفرع التصنيفات لتشمل عدة أوساط منها الثقافي والفني الذي لا يمكن أن يخرج عن دائرة الحساب بما أنه تخلی -بقصد أو بدون- عن الغرض الأساسي منه، مناقشة قضايا المجتمع والتعبير عن همومه وأحلامه.
ممنوع الاقتراب أو التصوير
مع تفشي النبرة السلطوية في الخطابات الاجتماعية ومواقع المسؤولية، خرجت الأمور عن السيطرة، خرجت من قمقمها وسياقها. أصبح كل ذي منصب، ولو كان منصباً إدارياً بلا أهمية تذكر، يجني منه قسطاً ضخماً من الأموال، سلطوياً.
لم يعد ممكناً تجاهل قيمة وسلطة المادة والطبقة الاجتماعية في ظل ارتفاع الأسعار وعجز الأغلبية عن إيجاد عمل كريم.
في شوارع المحروسة، يمكنك أن تشم رائحة احتراق الفئات الدنيا على يد السلطة. بتعبير الفيلسوف آلان دو بوتون، فإن السلطة باتت تعني سحق الأقل تأثيراً والأقل قيمة. صارت قيمة الفرد الاجتماعية نابعة من مستواه المادي، لا من أدواره ووظائفه التي يؤديها.
في مصر مزيج فريد بين سحق السلطة الطبقات الأقل قيمة واعتمادها -أي السلطة- في خطابها على الترهيب والتلويح بالإقصاء والنفي والاختفاء من المجال العام.
وفي السياق الاجتماعي والموروث الشعبي، فإن عقوبة المجتمع للأشخاص المختلفين عنه تتمثل في النبذ والنفي وما يترتب عليهما من تبعات مادية ونفسية، قاسية.
في إطار الحصار المفروض على الحرية، تشهد قرارات منع الاقتراب والتصوير في الوقت الحالي حالة من الازدهار والانتشار بصورة مثيرة للريبة. لم يعد ممكناً لأي أحد التقاط صورة في أي مكان لأي مكان، لأن في ذلك خطراً علی أمنه الخاص ممن يخافون من الصور.
أصدر وزير التربية والتعليم، طارق شوقي، قراراً منذ عدة أيام بمنع التصوير داخل المدارس علی خلفية انتشار صور لطلاب في المرحلة الابتدائية وهم وقوف داخل فصولهم، متكدسون بالرغم من ظروف فيروس كورونا الذي يشهد العالم كله موجته الرابعة. بدلاً من حل المشكلة من جذورها بالاستثمار في قطاع التعليم وبناء مدارس جديدة والنهوض بمستوى المعلم والرقي بمستواه المادي، قررت الحكومة، كما تفعل عادة، "كنس التراب تحت السجاد" للحفاظ على هيبة الدولة.
التقاط صورة لغروب الشمس وأنت على كورنيش النيل باتت مغامرة قد لا تحمد عقباها، لأن أفراد الأمن المنتشرين بطول الكورنيش ينتظرون أي خطأ منك لاقتيادك إلى القسم. بالرغم من جمال الكورنيش بعد تطويره في وقت قياسي، لكنك يجب أن تنفذ تعليمات الأمن للاستمتاع؛ امشِ بمحاذاة الرصيف، لا تقترب من السياج، ولا تجلس على الأرائك المجهزة لذلك.
بالطبع، لا يمكنك التقاط صورة في ميدان التحرير أو حتی الوقوف لدقيقة واحدة، لأنك ستُحاصر بالقوات الأمنية. كل شيء في هذا البلد صار مثيراً للريبة من وجهة نظر الأمن، وللجنون في عيون الشعب، كل قرار صار عبثياً وكأننا في مسرحية هزلية.
حوارات عصر التفاهة
في محاولات نبذ التنمر أو العنف تجد أخطاء شائعة تكاد تماثل الجانب المضاد من خطابات دحض الكراهية.
هنا، في عصر ما بعد الحداثة، ما زالوا يناقشون أزمات العصور الوسطی المتمثلة في إخضاع كل أمر للسلطة الدينية قبل تمريره للعامة، فنجد أن الرئيس يشكو من الأفكار الجامدة ويعلن عن مسؤولياتها في جمود الوعي الجمعي بالرغم من دعم الدولة التي هي تحت إمرة الرئيس للأزهر الذي يتجاوز المليارات سنوياً.
نجد الخطابات التي تدعو لمجتمع مدني سليم قوامه احترام الدستور وسيادة القانون ورغم ذلك نجد الآلاف داخل السجون محبوسين احتياطياً بلا تهم تقريباً، ولم تتخذ الدولة حيالهم أي خطوة في أشد لحظات الاحتياج لتخفيف السجون من روادها منذ سنوات في ظل أزمة كورونا، بل إن الدولة تسارع في بناء أكبر مجمع سجون على الطراز الأمريكي!
تتفرع الأمور التافهة في عصرنا وتشمل جوانب اجتماعية وفنية عديدة لأن يد الرقيب صارت قابضة علی الحياة، نجحت في "إخصاء" كل قضية وتفريغها من معناها، ونجحت في إقصاء كل من يحلمون بمناقشة جادة أو حل حقيقي لأي مشكلة.
لذلك نجد أن كل مظاهر الفن في مصر صارت مُكلفة بمناقشة قشور القضايا المهمة، مجرد قشور سطحية لا يمكنها معالجة شيء.
صارت هذه الطريقة سرطاناً ينتشر من مكان لآخر لأجل أن يحافظ كل مسؤول علی منصبه، وكل تابع علی راتبه، وكل محكوم علی القدر اليسير من الحرية التي تسمح له بالدخول للحمام أو تناول الطعام والشراب بلا استئذان فقط، لم يعد ممكناً مناقشة شيء هام من خلال مقال صحفي ورقي أو برنامج حواري على الشاشات الرسمية، ولا في فيلم أو مسرحية من إنتاج وطني ولا حتی في أغنية جادة قد تعبر عن قضية هامة، كلها قشور فقط، لذلك نعيش في عصر التفاهة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.