الوضع في غانا يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، فالوضع السياسي مضطرب كعادته في البلدان الإفريقية، والوضع الاقتصادي لا يقل سوءاً عن نظيره السياسي، ففرص العمل شبه معدومة، والفساد سمة أساسية لا غنى للمؤسسات الغانية عنها، والرشوة والمحسوبية يأكلان في البلاد كما تأكل النار الهشيم، والحياة الكريمة حلم بعيد المنال عن أيادي الغانيين. في وسط كل هذه الظروف، تحت سقف منزل رقيق الحال غرب العاصمة أكرا، تنظر الزوجة التي تبدو على وجهها آثار الشقاء والتعاسة، إلى زوجها قليل الحيلة، وتومِئ برأسها، أي أنها موافقة على الفكرة التي طرحها الزوج في الأسبوع الماضي، لم يعد هناك سبيل آخر، فالانتظار هنا موت في حد ذاته، ولن يختلف الوضع كثيراً إن أصبحوا وجبات غذاء للأسماك الجائعة.
سيركب الزوجان البحر إذاً كمهاجرين لإيطاليا، جنة الله في أرضه، فأي مكان يحفظهم من الجوع والسؤال هو بالضرورة جنة الله في أعينهم، تلتفت المرأة إلى زوجها وتأخذ عينه إلى بطنها لتذكره بالجنين الذي ينتظران مولده وأن الرحلة لن تكون سهلة على الإطلاق، لكن الزوج وبرباطة جأش يحسد عليها يقول لها إن مولودنا القادم ميت ميت إن ولد هنا، حتى وإن كتب له أن يعيش مئة عام، أما إن ركبنا البحر فهناك فرصة ولو كانت ضئيلة أن يحيا حياة أفضل من تلك التي حظينا بها.
الميلاد
في مشفى صغير بجزيرة صقلية التابعة لمقاطعة باليرمو ذاتية الحكم، تضع أم غانية مولودها الأول على الأراضي الإيطالية، لكن لسوء الحظ المولود ليس في أفضل حال، وعليه أن يصارع من أجل البقاء حياً، هذا كان يستلزم تهيئة ظروف خاصة للغاية ورعاية فائقة بقطعة اللحم الحمراء الصغيرة وهو ما لم يقدر عليه الأب والأم اللذان كانا قد وصلا إلى مدينة بريشيا، قبل أن يكمل طفلهم الثالثة من عمره.
حينها تدخلت السلطات الإيطالية وعرضت على الأسرة الصغيرة قيام أسرة إيطالية تسمح أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية بتبني الطفل الصغير، وقد كان، فقط وهو في الثالثة من عمره وصل من سيطلق عليه اسم "ماريو" فيما بعد إلى منزل آل بالوتيلي القابع في قرية كونشيسيو، جنوب مدينة بريشيا، وتحديداً على سفح جبل سبينا، حيث يعيش السيد فرانشيسكو والسيدة سيلفيا التي نجا أبواها من أفران الغاز الألمانية. في بداية الأمر، سيقضي الغاني الصغير أيام الأسبوع فقط في منزل آل بالوتيلي، بينما يعود في نهاية الأسبوع إلى أبويه البيولوجيين، لكن رويداً رويداً سيشعر الفتى الصغير بالانتماء إلى آل بالوتيلي وسيفضل البقاء معهم طوال أيام الأسبوع، ليعلن بعد ذلك رغبته في حمل اسم العائلة الجديدة، وهو ما سيحصل عليه بالفعل، ليعلن للعالم كله ميلاد "ماريو بالوتيلي".
في يوم شديد القيظ بالقرية الصغيرة، وبعد انتهاء اليوم الدراسي، سيتجمع الأطفال في ملعب المدرسة لينقسموا إلى فريقين ويبدأوا في اللعب، يومها كان ماريو في أوج عطائه، خطف الأنظار كلها، كان يمر من أقرانه بسلاسة ومرونة لا مثيل لهما، كأنه خلق دون عظام، وكان يسدد كأنه وضع قطعة حديدية في مقدمة حذائه تعطي الكرة هذه السرعة الخيالية، وكانت محاولات أخذ الكرة من بين قدميه درباً من دروب الحماقة.
لقد كانت أجمل أيامه في القرية قبل أن يأتي وليّ أمر "لوكا" صديق ماريو المقرب، والذي كان يراقب كل شيء عن بعد ويبدأ في توبيخ الأطفال، لأنهم سمحوا لهذا الطفل الأسود بإهانتهم هكذا، وكم هم عارٌ على إيطاليا، لأن فتى أسود سحقهم على أرضية الميدان هكذا، لم يفهم ماريو كلمات الرجل الأبيض الحانق حتى بدأ الرجل في توجيه كلماته أو رصاصاته إليه مباشرة، حينها كاد أن يبتلع الفتى لسانه من هول الصدمة، ليعرف بالوتيلي الصغير كيف تكون العنصرية، كانت هذه أول ندبة تصيب قلب ماريو ولم يبد لها اندمال.
من ناحية أخرى، كان إيمان إخوة ماريو بالتبني به وبقدراته يكبر يوماً بعد يوم، كانت مهارته أكبر من أن يتم حجبها أو السيطرة عليها، فذاع صيته في الحي كله، وكان الفتى الغانيّ ابن السيدة سيلفيا مثار حديث البلدة لأسابيع حتى صار يلقب بـ"سوبر ماريو"! استمر تشجيع إخوة ووالديّ ماريو له حتى سنحت فرصة الاختبار لاماسيا بمدرسة كرة القدم لنادي برشلونة وهو في عمر السادسة عشرة من عمره.
كان الاختبار عبارة عن فترة معايشة مدتها خمسة أيام، خلال هذه الخمسة أيام لعب ماريو ثلاث مباريات، سجل فيها خمسة أهداف وصنع ثلاثة، ليكون حديث لاماسيا بأسرها، تيقن حينها إخوته أنهم يمتلكون كنزاً هائلاً تحت أيديهم، وبالفعل بدأت المفاوضات مع نادي برشلونة من أجل ضم بالوتيلي، وبدا أن الفتى الصغير سيحقق حلمه وهو في البداية فقط، لكن شيئاً لم يكن في الحسبان قط وهو جنسية بالوتيلي، فرغم أنه ولد في إيطاليا، لم يكن ليحصل على الجنسية الإيطالية حتى يصل إلى الثامنة عشرة من عمره، لتنتهي قصته مع برشلونة قبل أن تبدأ.
لم ييأس ماريو، وفور عودته من كتالونيا كان نادي إنتر ميلان قد دخل على خط المفاوضات مع نادي لوميزاني، القابع في بريشيا، من أجل ضم الفتى صاحب الـ16 عاماً، وبالفعل اشترى نادي الجيزوبي مياتزا نصف بطاقة اللاعب لينضم إلى فريق (تحت 17) ليسحر الجميع بأهدافه وأدائه المذهل، ليرتقي إلى فريق (تحت 20) ويفوز في موسمه الأول ببطولتي تحت 17 وتحت 20 مع نادي الإنتر، ليعلن مولد نجم جديد في سماء الكرة الإيطالية.
في الموسم التالي تم تصعيده للفريق الأول وهو ابن السابعة عشرة وبضعة شهور، وفي أول مباراة له مع إنتر ميلان في كأس السوبر الإيطالي أمام نادي روما سجل هدف ناديه الثاني، ومن ثم سجل ركلة الجزاء الثالثة لفريقه الذي سيفوز في النهاية (8-7) بعد التعادل (2-2) في الوقت الأصلي. تألق بعد ذلك بالوتيلي مع الإنتر وحصد ثلاث بطولات دوري وبطولة دوري أبطال وبطولتي سوبر، لكن في هذه الأوقات لم تكن الأمور تسير جيداً في غرف خلع الملابس، وتحديداً مع المدرب البرتغالي جوزيه مورينيو، الذي كان قد ضاق ذرعاً بلامبالاة ماريو وتصرفاته، وبدأ في انتقاده على الملأ، ليعلن في النهاية أن ماريو لن يشارك معه في أي مباراة حتى نهاية الموسم.
رحل بالوتيلي عن إنتر كما سيرحل بعد ذلك عن مانشستر سيتي وميلان وليفربول وأندية أخرى، شجارات مع المدربين وإدارات الأندية، وتذبذب في المستوى، ومشاكل لا تنتهي مع زملائه اللاعبين.
ما بعد الميلاد
يقولون في عالم السوسيولوجي إن هوية أحدهم وشخصيته بناء اجتماعي، أي أنها ليست أمراً فطرياً يولد به المرء، فلا يوجد على وجه الأرض من ولد وهو يملك شخصيته وهويته التي سيعيش بها ويرى العالم من خلالها، ولكن تفاعلات المرء مع محيطه وعملية تنشئته إضافة إلى توقعات المجتمع حياله وحيال الأدوار التي يجب أن يؤديها وتصرفاتهم تجاهه هي التي تشكل هوية أحدهم وشخصيته، وبالوتيلي ليس الاستثناء الذي يشذ عن هذه القاعدة.
بالوتيلي ما هو إلا نتاج مجتمعه الذي ترعرع في جنباته، الفتى الأسود القادم من غانا الموهوب أكثر من أقرانه البيض ما كان ليواجه بالترحيب والتصفيق والتشجيع في مجتمع ما زال يعاني من العنصرية بشكل معتبر. تخيل أنك مراهق في السابعة عشرة من عمرك، تمتلك أموالاً كثيرة وكل الأبواب مفتوحة أمامك، لكنك في كل مرة تنزل فيها إلى أرض الملعب ترى الآلاف في المدرجات يلقون عليك الموز ويغنون "اقفز.. اقفز كي يجن ماريو"، في تشبيه له بالقردة، وأنه مجرد إفريقي أسود، حتى ولو كان يتكلم الإيطالية ويمتلك الجنسية الإيطالية ويمثل إيطاليا في المحافل الدولية.
هذه الظروف والتصرفات ربما مع لاعبين آخرين أمثال صامويل إيتو قد تزيد من الدوافع التي يمتلكها وتجعله يعطي أفضل ما عنده في كل مرة تطأ قدمه أرض الملعب، لكن مع بالوتيلي ولأننا مختلفون بطبيعتنا كانت هذه التصرفات تحطمه يوماً بعد يوم، تزيد الضغوط عليه، تجعله يضطرب كما قال في مقابلته مع صحيفة: "أحب أن ألعب كرة القدم من أجل المتعة فقط، لا أتحمل الضغوط الكثيرة التي تمارسها الجماهير والصحافة، أشتاق إلى أيام كنت ألعب فيها كرة القدم من أجل اللعب لا من أجل شيء آخر"، قال ماريو هذه الكلمات وهو في أوج تألقه مع مانشستر سيتي، وهو ما يعطينا فكرة عن شخصية بالوتيلي، التي يصعب عليها التكيف مع هذه الأوضاع.
أمرٌ آخر ساهم في وضع بالوتيلي الحالي، هو ماكينة الإعلام ورأس المال، التي كانت تحلب ماريو في مقتبل عمره، الإعلام الذي كان يعلم أن بالوتيلي مادة غنية لملء الصفحات الأولى من الجرائد كلما قلت المبيعات، سواء كانت الأخبار المتعلقة به حقيقية أو مزيفة، تبقى الحقيقة أن بالوتيلي لم يحظ بخصوصية منذ كان في الثامنة عشرة من عمره، فكانت حياته معروضة للجميع في وسائل التواصل الاجتماعي وفي مواقع الأخبار وأوراق الجرائد، هذا سبب اضطرابات شديدة لشخصيته جعلته بعد فترة يبحث عن المشاكل والتصرفات غير المسؤولة كلما أفل نجمه، ليعود إلى صدارة الجرائد والمجلات.
أما رأس المال فنراه ممثلاً بوضوح في وكيل أعماله مينو رايولا، أحد أكبر حيتان هذا المجال، مينو رايولا كان دائماً يسعى إلى أكبر ربح ممكن من وراء جوهرته السمراء، دون اعتبار لمستقبل ماريو الكروي أو كيفية تنمية موهبته، يكفيك معرفة أنه أعاده إلى إيطاليا عبر بوابة الميلان، وهو الذي كان قد ضاق ذرعاً بالجماهير الإيطالية وتصرفاتها العنصرية من أجل ضمان أكبر عمولة له.
في النهاية قد يبدو بالوتيلي مهملاً أو شخصاً أضاع نفسه بنفسه، وهو ما لا أنفيه تماماً، ولكن لا يمكن تحميله المسؤولية وحده، وكأنه كان قائد المركبة الوحيد، بالوتيلي في نهاية الأمر بشر وله قدرة تحمل محدودة، وللأسف فإن شخصيته وقدرته على تحمل الضغوطات وتطلعات الجماهير لم تكن كافية للتعامل مع عالم مثل عالم كرة القدم، ربما كان التنس أو السباحة المكان الأفضل له كما كانت تقول له السيدة سيلفيا، لكن في النهاية ضل سوبر ماريو طريقه وأتى إلى عالم كرة القدم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.