"هدفي ورسالتي بصفتي لاعباً لم تكن على أرض الملعب فقط، بل وخارجه أيضاً؛ فالسلوك والسيرة الحسنة هما ما يتبقيان للاعب كرة القدم بعد اعتزاله".
لم يترك "الماجيكو" محمد أبو تريكة مناسبة إعلامية إلا وكان مؤكداً ومرسخاً عند الناس ذاك المبدأ، الذي اتخذه منذ البداية وآمن به، وأكد عليه بكل موقف مر به لاعباً حالياً أو سابقاً، إعلامياً تاركاً لاستوديو، أو مدعوّاً إلى حفل فيتكلم عن القضية الفلسطينية.
لم تكن تلك أبداً مبررات تُمكن أبو تريكة من التخطي أو حتى غض الطرف عن مبادئه، فلم يسبق للكرة العربية أو حتى الإفريقية رؤية نموذج مثل هذا من قبل.
أبو تريكة.. كلاكيت مليون مرة
سواء كنت مؤمناً بمواقف أبو تريكة، داعماً له ومتيماً عاشقاً تحمل قلباً مدوناً بهِ كل رسالة أرسلها كما يرسل تمريراته السحرية، أو حتى لو كنت مستهجناً رافضاً لا تراه فيما يفعله إلا كشخصٍ يبالغ الناس في وضعه "بالمدينة الفاضلة"، يضع نفسه في مشاكل ومواقف لن يغير بها شيئاً أو حتى لو حسبته يحاول التصنع والظهور بمظهر البطل وجلب اللقطات والضجة والظهور في التريند، فدعنا نترك كل هذا خلفنا، والتأكيد على أنه أياً ما كان الغرض فالفعل ثابت، فهذا الشخص لم يمنعه شيءٌ عن تطبيق مبادئه، ولم يراجع نفسه لسبب من الأسباب، واكتفى بالتزام الصمت، ولا حتى كبَر الموقف جعله يخشى التصدر فيما هو أكبر منه.
بعد مجزرة بورسعيد ذاك اليوم، الذي ربما كان يوماً مفصلياً في شخصية أبو تريكة والجرح الذي لا يذبل، ويُستذكر كلما ظهر من وراء المستطيل الأخضر علامة تغص القلب وتذكر باليوم المشؤوم، جاءت مباراة السوبر المصري لتكون عودة الكرة إلى مصر ومحاولة إلهاء الناس لنسيان ما حدث في استاد الدم.
قاطعت الجماهير المباراة، سمّاها البعض بطولة بطعم الدم، كرهوا ولأول مرة سماع الأخبار عن ناديهم وعشقهم الأبدي، إلا أن ذاك الخبر رسم ابتسامة لم ينسها الجمهور كما لم ينسَ دماء شهدائه، رُسمت على أفواههم، بمجرد سماع وقف اللاعب محمد محمد أبو تريكة وتغريمه بمبلغ مالي نظراً لانسحابه من المباراة.
بعد المباراة حُمل أبو تريكة على الأعناق بجوار أهالي الشهداء ليحفر اسمه بالذهب، بذهبٍ يختلف عن ذاك المزيف الذي يعطى بعد النهائيات وبطولات كرة القدم، بل هذا ذهبٌ لا يصدأ، هذا هو الوسام الوحيد الذي يمكن أن يكون أعلى من أوسمة الإمبراطورية البريطانية، وهو وسام "أمير القلوب"، رغم غلاء ثمن الوسام وبهاظة ثمن ضرائبه، بدءاً من ذاك الكارت الأصفر بعد قميص "تعاطفاً مع غزة"، ثم أصفر آخر بعد قميص نحن "فداك يا رسول الله".
زادت تلك الضرائب على أبو تريكة بمرور الوقت، فأكملها بخروج من بلده مصر، مع تحفظ الدولة على أمواله ومنعه من العودة ووضعه على قوائم ترقب الوصول، فأصبح الملاذ والملجأ الوحيد له قطر، وشبكة قنوات بين سبورت التي يعمل بها.
لكن كما يقول المصريون: "قلبه طيب واللي على قلبه على لسانه"، فخرج ذلك اللسان، كعادة أبو تريكة، ليقول إنه لم يشترِ قميص باريس سان جيرمان المملوك لصاحب القناة، لأنه مقاطعٌ للمنتجات الفرنسية!
وصولاً إلى موقفه الأخير الذي استأذن فيه بالخروج من الاستوديو، وعدم مواصلة التحليل، لأن أرواح البشر أغلى، حين أصيب أحد الجماهير بسكتةٍ قلبية توقفت معها قلوب عشاق كرة القدم، وكل مؤمنٍ بالإنسانية في كل مكان.
لم يكن أبو تريكة الأول ولن يكون الأخير، فدفتر الضرائب مليء بنجوم دفعوا غالياً نظير ما قدموه تجاه قضايا ربما آمنوا بها وحاولوا التعبير عن آرائهم ضد عالم الرأسمالية والرعاة والأموال.
أوزيل الذي دفع الكثير
فهذا مسعود أوزيل يعلن دعمه لمسلمي الإيغور مرات تلو الأخرى، بل ويتهم الصين رسمياً بالضلوع في عمليات قتل وتهجير عرقي، ووضعه لعلم المسلمين الإيغور الذين يعتبرونه علماً لدولتهم تركستان الشرقية، ويدعو الجميع للتحدث، وأنك إذا لم تستطع وقف الظلم فأعلِنه للجميع.
أوزيل دفع ثمناً كلّفه ربما حتى البعد عن الساحة الكروية في أوروبا، وعدم العودة إليها مرة أخرى ربما، بالفعل ضعف المستوى الذي ظهر به في أيامه الأخيرة في الأرسنال يعد نتيجةً، فمواقفه تجعل أي فريق يفكر ألف مرة قبل الدخول في حرب مع المستثمرين الصينيين.
الآن ربما يكمل حياته الكروية بلا أضواء، في تركيا، لكن بالتأكيد لن ينسى صغار الإيغور اسم مسعود أوزيل مهما حدث.
ربما بالنسبة لنا فاسم مسعود أو محمد هي الأسماء المعتادة للتواجد بالقرب من تلك المناطق الشائكة والخوض في تلك القضايا الصعبة، خصوصاً لارتباطها بالمسلمين، ولكن اسم كاسم أنطوان ليس معتاداً.
جريزمان "الإنسان" في أبهى صوره
الفرنسي أنطوان غريزمان أعلن في رسالة رسمية على مواقع التواصل الاجتماعي فسخ تعاقده من طرف واحد مع الشركة الصينية المشهورة "هواوي"، بسبب ما سماه "شكوكاً قوية" حول مساعدتها في تصنيع تكنولوجيا تعقب تستخدمها الحكومة الصينية في ضبط وقمع مسلمي الإيغور.
تلك الاتهامات أشارت إلى أن شركة هواوي قامت بتطوير إحدى تكنولوجيات التعرف على الوجه، من أجل تحديد أماكن مسلمي الإيغور التي يختبئون بها خوفاً من بطش الحكومة الصينية.
نعم لم يكمل بعدها الفرنسي في نادي برشلونة برعايته الصينية، ولكن يخيل لي أنه ربما بعد أعوام كثيره سيُكتب مقالٌ في مكان ما يتحدث عن موقف أنطوان غريزمان كما نتحدث اليوم عن مواقف لم ننسها رغم مرور عشرات السنوات عليها، مثل موقف كرويف من كأس العالم في الأرجنتين.
كرويف وفضح معتقلات الأرجنتين
حينها صدم كرويف الجميع بعد فوز هولندا على بلجيكا وتأهلها رسمياً لكأس العالم، فيهرع الصحفيون لفتى هولندا الأول وأملها في نَيْل اللقب العالمي، ليفاجئهم بأنه "لن يلعب كأس عالم على بعد أمتار من معسكرات اعتقال يُعذب فيها الناس"، ويتم الضغط عليه فيعلن اعتزاله دولياً: "أنا لن ألعب كأس العالم في الأرجنتين".
منتخب هولندا بلا كرويف؟ كان الأمر بمثابة كارثة جعلت حتى ملكة هولندا تحاول إثناءه عن رأيه، لكنه رفض الأمر تماماً، تلقى تهديدات بالقتل والخطف والاغتيال من المقربين من الديكتاتور الأرجنتيني، ولكن في نهاية الأمر سافر باقي المنتخب وكان مقعد كرويف خالياً.
خسرت هولندا النهائي بدون كرويف أمام الأرجنتين، وربما ظنّ الديكتاتور الأرجنتيني خورخه فيديلا أنه نجح في خطته باستغلال كأس العالم.
سب البعض كرويف، وآخرون رفعوا قضية تطالب بإسقاط الجنسية عنه، ولم يعرفوا أنه بعد مرور 43 عاماً من عام 1978 سيتذكر الناس موقف كرويف وارتباط اسمه بهولندا، ويتذكرون فيديلا بالسباب بعد وفاته في السجن!
سقراطس الذي مزق شباك الديكتاتورية
بنفس الشكل سيذكر في التاريخ بجوار سقراط الفيلسوف، سقراطٌ آخر، ظل راهباً في الملاعب البرازيلية، رافضاً أي عروض خارجية، لم ينل سقراط شرف الفوز بكأس العالم أو الحصول على ميدالية يضعها في منزله، إلا أن حركة كورنثاينز الديمقراطية ستشهد على ما قدمه، بل البرازيل كلها تتذكر حتى الآن أن لاعب كرة قدم اعتاد الجميع أن يكونوا خلفه، داعمين له في المباريات، أحدث العكسَ عندما احتاج إليه الشعب وكان في الصفوف الأولى ضد الحكم العسكري.
هدد سقراط في منتصف ساحات البرازيل أمام مليوني شخص بالاعتزال والذهاب للعب في إيطاليا إذا لم يتم قبول انتخابات الرئاسة في البرازيل في الاستفتاء على التعديل الدستوري.
بعد هذا الموقف ولد إرث ديمقراطية زاد بعدها وتبلور، فإدانته للديكتاتورية العسكرية والقتال من أجل دمقرطة البرازيل زادت إرثه الشخصي إلى خارج المستطيل الأخضر وما وراء ملعب الكرة.
في النهاية، ربما تكون أسطورة مثل كرويف أو أقل من هذا مثل أوزيل وغريزمان، ولكن ما يتبقى لك في النهاية بالفعل هو ما قاله محمد أبو تريكة: "السيرة هي ما تتبقى للاعب بعد وفاته أو بعد اعتزاله".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.