على نحو غير متوقع، تفاجأ صناع فيلم ريش، أول فيلم مصري يفوز بجائزة أسبوع النقّاد لمهرجان كان، من انسحاب بعض النجوم أثناء العرض الخاص بالفيلم في مهرجان الجونة السينمائي.
ولكي نفهم الدافع وراء هذا القرار المفاجئ رغم محاولات منتج فيلم ريش محمد حفظي إقناع هؤلاء النجوم باستكمال العرض، علينا أن نعود 30 عاماً للوراء، للتأكد بشكل أفضل من مصداقية تلك الحجج التي تذرَّع بها المنسحبون قبل انسحابهم، والتي منها على سبيل المثال أن فيلم ريش "يعكس صورة غير صحيحة عن الواقع المصري، ويعمل على تشويه صورة الدولة المصرية".
فيلم ريش vs متنقدوه
في العام 1991 قدم المخرج المصري الكبير داود عبد السيد فيلمه الأسطوري "الكيت كات"، الذي أصبح بعد ذلك من علامات السينما العربية، ولم تكن مخاطرة منه بالتأكيد الاعتماد على وجه شاب آنذاك، وهو الفنان شريف منير، الذي قدّم ببراعة دور الشاب يوسف، نجل الشيخ حسني، البائس الذي يعاني من البطالة، ويسعى للسفر خارج مصر بأي وسيلة، وإلى أي مكان، رغم محاولات والده المستميتة لثنيه عن القرار.
وقتها لم يفكر شريف منير كثيراً وهو ممثل صغير في بداياته أن الدور الذي يقدمه هو تحديداً في الفيلم "قد ينقل صورة سيئة عن مصر"، وعن أوضاع الشباب في وقت كثر فيه الحديث عن البطالة في البلاد، والتي كانت هي نفسها حقيقة الواقع وقتها أيضاً.
لننسى شريف منير الآن ونركب آلة زمنية لتطير بنا من العام 1991 إلى العام 2021، حيث قدّم الفنان أحمد رزق في مسلسل "القاهرة كابول" دور مخرج مصري يواجه الاضطهاد في مصر، وتُمنع أفلامه من العرض، ما يدفعه للسفر دائماً إلى الخارج كي يتمكن من عرض أفلامه في المحافل الدولية.
ويا لها من مصادفة أن ينسحب أحمد رزق تحديداً وشريف منير من قاعة عرض فيلم ريش، الذي يحاكي واقع البسطاء في مصر، ويضطر مخرجه من آنٍ لآخر للسفر لتلقي الاحتفاء بالفيلم في أهم وأكبر المهرجانات الدولية، ما أثار عاصفةً من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي.
ناقض كل منهما نفسه إذاً، سواء نفسه قبل 30 عاماً أو قبل شهور قليلة، وينطبق هذا التناقض بالتأكيد على كل من أشرف عبد الباقي والفنانة الكبيرة يسرا، اللذين نقلت بعض الصحف انسحابهما أيضاً من عرض الفيلم، رغم أن لكل منهما رصيداً كبيراً من الأفلام، التي إذا طُبق عليها المبدأ ذاته، الذي تذرعوا به في انسحابهم من عرض فيلم ريش، سيتم اعتبارها أفلاماً معادية لمسيرة الدولة المصرية، وتُشوّه صورة الحياة في مصر!
والآن، وبعد أن تأكدنا وبسهولة من أن حجتهم للانسحاب من عرض فيلم ريش واهية، فإننا نبحث عن السبب المحتمل بنسبة أكبر، وهو أن يكون وراء هذا الانسحاب -في رأيي- الحالة العامة التي تعيشها البلاد منذ انقلاب يوليو (تموز) 2013.
ولكي لا تعتقد أنني أبالغ كثيراً في الربط بين قرار هؤلاء النجوم وبين الواقع السياسي، فإليك هذا المقطع الذي يقول فيه السيسي بنفسه إنه لن يسمح لـ"التلفزيون" مرة أخرى أن ينقل واقع العشوائيات في مصر، متحججاً بمعايرة هؤلاء الصناع للمصريين بفقرهم.
وهذا المقطع الذي استشهد به الإعلامي المقرب من السلطة في مصر، أحمد موسى، في حلقة برنامج "على مسؤوليتي"، وهو يهدد -أو يحذر على أفضل تقدير- صناع السينما في مصر من إنتاج أفلام تحاكي واقع الفقراء، تزامناً مع أزمة فيلم ريش.
لماذا يتماهى النجوم إذاً مع السلطة؟
منذ اللقاء الأول الذي جمع عبد الفتاح السيسي بالفنانين المصريين عام 2014، تبين أن الرجل ينوي رسم خريطة جديدة للإنتاج السينمائي والدرامي في البلاد.
وقتها لم يتوانَ هؤلاء الفنانون عن إظهار الولاء للرجل، الذي كان قد وصل لسدة الحكم قبل أسابيع قليلة من اللقاء، ما يظهر حكم الكيمياء بينهم وبينه، فلقد كانوا يعلمون جيداً ما هو قادم في عهد الرجل، الذي أخبرهم بأنهم سيكونون فيه أهم أسلحته في مواجهة "أعداء الأمة المصرية".
وبالفعل لم تمر سوى 3 أعوام على لقائهم به حتى ظهر إلى الساحة المصرية تامر مرسي، المنتج الذي يمثل الدولة في سوق السينما والدراما، ولأنه يمثل الدولة فقد احتكر هذه الصناعة تماماً له، وأصبحت شركته "سينرجي" هي المنتج الوحيد تقريباً للأعمال الكبرى.
كذلك احتكرت الشركة وحدها كل نجوم الصف الأول من الفنانين في فترة عصيبة على الوسط الفني، حيث شهدت غياب الكثير من النجوم عن الساحة دون أن يعلم هؤلاء السبب في ذلك، ما دفع الكثيرين منهم للتساؤل علناً عن سبب غيابهم عن المشهد الفني، وما إن كان ذلك مقصوداً من سينرجي، التابعة للمجموعة المتحدة، والمملوكة بالكامل لجهاز المخابرات العامة.
ومن وقتها أصبحت المعادلة واضحة لكل الفنانين في مصر؛ فعملك في مجال السينما والدراما أصبح حاله حال الإعلام والصحافة ومختلف المجالات في مصر، حيث يجب أن تقدم قرابين الولاء أولاً حتى تحصل على فرصة للعمل، مهما كان قدر نجوميتك، وبعد حصولك على هذا العمل يا حبذا أن تتنازل عن جزء من المقابل المادي المتفق عليه مع الشركة التي تنتج هذه الأعمال بأموال الدولة، كبادرة منك للوقوف بجوار الوطن في هذا الظرف العصيب.
لكن تذكّر صديقي الفنان وتعلّم من شريف منير، الذي يتباهى دائماً بوضعه لعلم مصر في مطبخ منزله، أن مجرد تقديم هذه القرابين لمرة واحدة ليس كافياً، بل عليك أن تقدمها في كل فرصة ممكنة، وإن لم تجد فرصة مناسبة فعليك أن تخترعها بنفسك، كانسحابك مثلاً من عرض خاص لفيلم مصري فائز بالجائزة الكبرى لأسبوع النقاد بمهرجان كان السينمائي، أكبر المهرجانات العالمية في مجال السينما، وقامت وزيرة الثقافة المصرية نفسها بتكريم صُناعه، فيلم ريش!.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.