فائض “غير حقيقي” بميزان المدفوعات المصري

عربي بوست
تم النشر: 2021/10/18 الساعة 09:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/10/18 الساعة 10:13 بتوقيت غرينتش
رويترز

أعلن البنك المركزي المصري، قبل أيام، تحقيق ميزان المدفوعات المصري فائضاً، بلغ 1.9 مليار دولار بالعام المالي 2020/2021 المنتهي بنهاية يونيو/حزيران الماضي، مقابل تحقيق عجز بلغ 8.6 مليار دولار بالعام المالي السابق الذي شهد ذروة التداعيات السلبية لفيروس كورونا.

واعتبر البنك ذلك الفائض مؤشراً لقدرة الاقتصاد المصري على التعافي السريع من الأزمات التي قد تواجه الاقتصاد العالمي، وراح إعلام الصوت الواحد بمصر يشيد بذلك الإنجاز، دون أن يقرأ أحد تفاصيل بيانات ميزان المدفوعات حتى يعرف الحقيقة المرة، وأن هناك عجزاً حاداً حقيقياً بميزان المدفوعات وليس فائضاً. 

وميزان المدفوعات هو مؤشر اقتصادي يقيس الفارق بين موارد أية دولة من العملات الأجنبية، من الصادرات والسياحة والاستثمار الأجنبي والمعونات وتحويلات العاملين بالخارج، وحصيلة خدمات النقل والخدمات الصحية والتعليمية وغيرها من جانب، وبين مدفوعاتها للخارج  بالعملات الأجنبية من جانب آخر لدفع قيمة وارداتها السلعية والخدمية وفوائد الاستثمارات الأجنبية بها إلى غير ذلك من مدفوعات.

وللتدليل على عدم وجود فائض حقيقي بميزان المدفوعات، سنستخدم طريقتين لتناول بيانات ميزان المدفوعات لتبسيط الأمر على غير المتخصصين، الطريقة الأولى هي الموازين الفرعية التي يتضمنها الميزان الكلي للمدفوعات.

حيث ينقسم الميزان الكلي للمدفوعات لأي بلد إلى خمسة موازين فرعية داخله، هي: الميزان التجاري، والميزان الخدمي، وميزان دخل الاستثمار، وميزان التحويلات، والحساب المالي والرأسمالي، وتجتمع الموازين الأربعة الأولى معاً فيما يسمى حساب المعاملات الجارية. 

عجز تجاري مستمر منذ 50 عاماً 

وفي مصر ونظراً للعجز المزمن بالميزان التجاري منذ أكثر من 50 عاماً متواصلة، وهو الميزان الذي يقيس الفرق بين قيمة الصادرات والواردات السلعية، فإن هذا العجز الكبير يستوعب الفائض المتحقق من الميزان الخدمي، والذي يقيس الفارق بين المتحصلات الخدمية من سياحة ونقل وخدمات تعليمية وصحية وهندسية وقانونية ومصرفية وتأمينية ومحاسبية وتشييد وبناء وغيرها، وبين المدفوعات الخدمية للخارج  لمثل تلك النوعيات من الخدمات. 

كما يستوعب العجز الكبير بالميزان التجاري أيضاً الفائض الذي يتحقق من تحويلات العمالة المصرية بالخارج، ليتبقى جزء من العجز التجاري بعد ذلك، يضاف له العجز المزمن بميزان دخل الاستثمار، والذي يقيس الفارق بين مدفوعات الفوائد على استثمارات وودائع الأجانب داخل مصر، والفوائد المُحصلة من الاستثمارات المصرية بالخارج، لتظهر الحصيلة فيما يسمى ميزان المعاملات الجارية. 

وللتدليل على ذلك من خلال الحالة المصرية، ومن خلال بيانات ميزان المدفوعات للعام المالي الأخير، نجد العجز بالميزان التجاري قد بلغ 42.1  مليار دولار، بينما الفائض بميزان الخدمات 5.1 مليار دولار، وفائض التحويلات الخاصة والرسمية 30.9 مليار دولار.

ويضاف لذلك العجز بميزان دخل الاستثمار البالغ 12.4 مليار دولار، ليتبقى 18.4 مليار دولار تمثل العجز بميزان المعاملات الجارية، وهو عجز متكرر منذ سنوات بهذا الميزان الجامع لنتائج أربعة موازين فرعية. 

الاقتراض هو الحل!

ولهذا يلجأ المسؤولون إلى الميزان الخامس المسمى الحساب المالي والرأسمالي، والذي يقيس الفرق بين التدفقات الواردة للبلد من الاستثمارات الأجنبية، بنوعيها المباشرة وغير المباشرة، أي التي في شكل مشروعات أو التي في شكل شراء للأسهم والسندات، وكذلك التدفقات الواردة من ودائع الأجانب بمصر والقروض منهم، وعلى الجانب الآخر من الحساب المالي والرأسمالي، المدفوعات المتمثلة في استثمارات المصريين بالخارج سواء المباشرة أو غير المباشرة وودائعهم بالخارج وإقراضهم لجهات خارجية. 

حيث أسفر هذا الحساب المالي والرأسمالي بالعام المالي الأخير عن تحقيق فائض بلغ 23.4 مليار دولار، كفرق بين الموارد المتحققة ومنها القروض والودائع من الأجانب بمصر والبالغة 12.8 مليار دولار، ومشتريات الأجانب من أدوات الدين المصري البالغة 18.7 مليار دولار، وصافي الاستثمارات المباشرة للأجانب بمصر البالغة 5.2 مليار دولار.

وعلى الناحية الأخرى من الحساب المالي والرأسمالي، المدفوعات المصرية للخارج لدفع أقساط الدين الخارجي، والودائع المصرية بالخارج واستثمارات المصريين المباشرة وغير المباشرة بالخارج والتي تسمى أيضاً استثمارات الحافظة. 

وبهذا تفوق الفائض بالحساب الرأسمالي والمالي، البالغ 23.4 مليار دولار، على العجز بميزان المعاملات الجارية البالغ 18.4 مليار دولار، فحدث فائض بالميزان الكلي للمدفوعات كما ذكرت بيانات البنك المركزي المصري، قلل من قيمته حدوث عجز فيما يسمى السهو والخطأ بلغ 3.1 مليار دولار، ليصل الفائض بالميزان الكلي للمدفوعات بالنهاية 1.9 مليار دولار. 

31.6 مليار دولار قروضاً خارجية 

ولأن تلك الطريقة الأولى لتناول ميزان المدفوعات كانت صعبة بعض الشيء فهناك طريقة أسهل، لا تتعامل بالمرة مع أي من تلك الموازين الفرعية والمسميات المتخصصة، وإنما تضع كل الموارد في جانب من تصدير وسياحة وتحويلات وقناة السويس والخدمات المختلفة وغيرها من الموارد الرئيسية الـ12.

وفي الجانب الآخر نضع كل أنواع المدفوعات من واردات سلعية وخدمية وسداد قروض ومدفوعات لفوائد الاستثمار الأجنبية بالداخل والسياحة الخارجة من مصر واستثمارات المصريين بالخارج إلى غير ذلك من مدفوعات. 

وهنا سنصل إلى بلوغ إجمالي الموارد 113.225 مليار دولار، بينما كان إجمالي المدفوعات للخارج 111.363 مليار دولار، بفائض 1.862 مليار دولار، وهو ما ذكره البنك المركزي. 

لكن الذي ينظر إلى مكونات الموارد سيجد من بينها 12.8 مليار دولار عبارة عن قروض، و18.7 مليار دولار تمثل  مشتريات الأجانب لأدوات الدين المصري والتي تسمى أيضاً استثمارات الحافظة في مصر، وهي تمثل بالنسبة للمشترين الأجانب استثماراً.

حيث يحصلون على عوائد سنوية تزيد عن 13% في أذون وسندات الخزانة المصرية المضمونة من الحكومة المصرية، لكنها في نفس الوقت تعد بالنسبة لمصر ديوناً عليها، يجب سدادها عندما يحل أجلها مع دفع الفائدة عليها. 

وهكذا تتضمن الموارد 31.6 مليار دولار تمثل قيمة القروض والديون المتمثلة في مشتريات الأجانب من أدوات الدين المصري، وباستبعاد النوعين من الموارد ينخفض إجمالي الموارد إلى 81.6 مليار دولار، مقابل مدفوعات بلغت 111.4 مليار دولار، مما يعني أن هناك عجزاً حقيقياً بميزان المدفوعات المصري يبلغ 29.7 مليار دولار بالعام المالي الأخير وليس فائضاً. 

رقم غير مسبوق للواردات السلعية 

ويبقى سؤال طرحه الإعلام المصري عندما تحدث عن نتائج ميزان المدفوعات الأخير باعتبارها تمثل تخطياً لأزمة كورونا، فهل هذا صحيح؟

وتجيب بيانات موارد ومدفوعات ميزان المدفوعات بالعام المالي الأخير عن ذلك، ففي مجال الموارد بلغت قيمة الصادرات السلعية 28.7 مليار دولار بنسبة نمو 9% عن العام المالي السابق. 

وهو العام الذي شهد ذروة آثار كورونا خلال ربع العام الممتد من أبريل/نيسان إلى يونيو/حزيران 2020، حيث تأثرت حركة الموانئ والطيران والمصانع، ولهذا من الطبيعي أن تزيد قيمة الصادرات بعد عودة الأمور إلى طبيعتها، لكن رقم الصادرات المتحقق ما زال أقل مما تحقق من 14 عاماً بالعام المالي 2007/2008. 

وإذا كان قطاع السياحة قد حقق 4.9 مليار دولار فهذا الرقم أقل مما تحقق منذ 17 عاماً، كذلك فإن رقم صافي الاستثمار الأجنبي المباشر البالغ 5.2 مليار دولار أقل مما تحقق منذ 15 عاماً، ورقم إيرادات خدمات النقل بدون قناة السويس البالغ 1.6 مليار دولار ما زال أقل مما تحقق منذ 14 عاماً. 

ورقم متحصلات دخل الاستثمار البالغ 573 مليون دولار فهو أقل مما تحقق منذ أكثر من 20 عاماً، أما المعونات الخارجية فالمرة الأولى يكون تدفقها للخارج ليس للداخل، بقيمة سالبة 277 مليون دولار. 

وتزيد صعوبة الموقف للاقتصاد المصري بالنظر إلى جانب المدفوعات، حيث بلغت قيمة الواردات السلعية 62.1 مليار دولار وهو غير مسبوق تاريخياً، ولم تستطع إجراءات وزارتي المالية والتجارة الخارجية والبنك المركزي تحجيم قيمة الواردات بسبب زيادة السكان ورغم حالة الركود.

مع الأخذ في الاعتبار أن قيمة الواردات المُعلنة أقل من الواقع، نتيجة "التلاعب" في قيمة فواتير الشراء من جانب كثير من المستوردين لتقليل الرسوم الجمركية، وكذلك هناك واردات سلعية تدخل البلاد عن طريق التهريب لا تدخل في البيانات الرسمية، مما يعني أن تكلفة الواردات الحقيقية أعلى من ذلك.

وفي ضوء ارتفاع أسعار النفط والقمح والذرة وزيوت الطعام والمعادن عالمياً، والتي تستورد مصر منها كميات كبيرة فسوف ترتفع قيمة الواردات بالفترة القادمة، إلى جانب أن زيادة الصادرات المصرية تتطلب زيادة الواردات، حيث إن حوالي 60% من مكونات الصادرات مستوردة من الخارج. 

كذلك حققت مدفوعات فوائد استثمارات الأجانب بمصر أعلى قيمة تاريخية لها، بلغت حوالي 13 مليار دولار كفوائد على القروض والودائع الأجنبية بالداخل ومشتريات الأجانب من أدوات الدين المحلي. 

وهو ما يضغط على موارد البلاد من العملات الأجنبية، وكذلك على سعر الصرف الذي يحاول البنك المركزي السيطرة عليه  بقدر المستطاع، رغم تحول صافي أرصدة العملات الأجنبية بالبنوك التجارية المصرية إلى تحقيق عجز بلغ 1.6 مليار دولار خلال شهر يوليو/تموز الماضي.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ممدوح الولي
كاتب صحفي وخبير اقتصادي
كاتب مصري وخبير اقتصادي، نقيب الصحفيين المصريين السابق، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام الصحفية سابقاً.
تحميل المزيد