العلاقات السورية-اللبنانية.. المسار والمصير (1)

عربي بوست
تم النشر: 2021/10/18 الساعة 13:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/10/18 الساعة 13:40 بتوقيت غرينتش

تعود تاريخياً العلاقات السورية اللبنانية إلى ما قبل ما يعرف بـ"اتفاق الطائف" فقد عاشت سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي بعد ترسيم حدود دول المنطقة في اتفاقية "سايكس بيكو"، كبلدين منفصلين بمؤسسات واحدة كبنك "سوريا ولبنان"، والذي ظل يحمل هذا الاسم لفترة طويلة حتى بعد استقلال البلدين نهائياً عن الانتداب الفرنسي.

قبيل الاستقلال اللبناني عام 1943 بأسابيع عُقد أول اتفاق بين لبنان وسوريا التي كانت لا تزال تحت الانتداب الفرنسي، وكان هذا الاتفاق هو إدارة "المصالح المشتركة" التي خلفها الانتداب للبلدين تمهيداً لاقتسامها بينهما. وبعد حصول لبنان على الاستقلال جاء ما سمي بإعلان الميثاق الوطني اللبناني عام 1943 والذي تعهدت بموجبه السلطات اللبنانية ألا تستخدم أراضيها مقراً أو ممراً لأعداء سوريا. 

وظلت العلاقات السورية-اللبنانية تسير وفق الميثاق، إلى أن انفجر الوضع الداخلي في لبنان على إثر محاولة الرئيس كميل شمعون الدخول في تحالف مع أوروبا بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

ولم تنتهِ تلك الأزمة إلا عقب توصل الرئيس المصري جمال عبد الناصر لتفاهمات مع القادة اللبنانيين رحل على إثرها شمعون وحل محله الرئيس فؤاد شهاب، وقد توصل عبد الناصر مع شهاب إلى اتفاق نص على حرية لبنان الكاملة كدولة مستقلة فيما يتعلق بسياستها الداخلية، أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية فلا يجوز للسلطات اللبنانية اتخاذ قرار إلا بعد التنسيق المسبق مع سلطات الجمهورية العربية المتحدة (التي كانت تضم وقتها سوريا ومصر). 

واستقرت العلاقات بين لبنان وسوريا منذ هذا التاريخ وفق تلك التفاهمات. من عام 1943 حتى 1974 وقع البلدان 28 اتفاقية، لكن في غالبيتها اتفاقيات تنظيمية للأمور المشتركة بين البلدين اللذين لم يتبادلا السفراء أبداً، وتجمعهما حدود مشتركة لم ترسّم بالكامل إلى اليوم.

انفجرت الحرب الأهلية عام 1975 الأمر الذي دفع بالرئيس سليمان فرنجية أن يطلب من سوريا التدخل لوقف الحرب. وقد دخلت القوات السورية إبانها إلى لبنان بدعم ومساندة عربية من خلال مؤتمر القمة العربية الذي عقد عام 1976 وأصدر قراراً بالإجماع يقضي بإرسال قوات ردع عربية إلى لبنان بهدف إنهاء الحرب الأهلية، تشكل القوات السورية العماد الرئيسي لها.

ثم شهد لبنان بعد ذلك تطوراً آخر دفع في اتجاه بقاء القوات السورية وسط دعم عربي كامل، ففي عام 1978 اجتاحت القوات الإسرائيلية جنوب لبنان وقامت باحتلاله؛ احتجاجاً على ما وصفته استغلال المقاومة الفلسطينية لهذه المنطقة في توجيه ضربات لشمال إسرائيل.  

الوحدة بين مصر وسوريا والعلاقات السورية-اللبنانية
تأسيس الجمهورية العربية المتحدة

وقد ظل هذا الوضع قائماً حتى قامت إسرائيل باجتياح كل من لبنان، من الناقورة جنوباً حتى العاصمة بيروت شمالاً، عام 1982، ولم تخرج منها إلا بعد تفاهمات دولية خرج بمقتضاها  ياسر عرفات ورجال  المقاومة الفلسطينية من لبنان، ونتيجة لهذا الموقف عادت القوى الوطنية اللبنانية إلى التمسك ببقاء القوات السورية من أجل دحر العدوان الإسرائيلي. 

وفي عام 1989 جاء اتفاق الطائف ليعيد إحياء العلاقات الرسمية بين لبنان وسوريا، بعدما أقر الاتفاق مبدأ العلاقات المميزة بين البلدين بمباركة دولية وعربية، وتُرجم هذا الاتفاق عبر معاهدة "الأخوة والتعاون والتنسيق" التي وقعت بين البلدين علم 1991، والتي نصت على الروابط الأخوية المميزة التي تربط البلدين والتي تستمد قوتها من جذور القرب والتاريخ والانتماء الواحد والمصير المشترك والمصالح المشتركة.

واتفق البلدان في المعاهدة على أن يعملا على تحقيق أعلى درجات التعاون والتنسيق بينهما في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية وغيرها، بما يحقق مصلحة البلدين الشقيقين في إطار سيادة واستقلال كل منهما، وبما يمكِّن البلدين من استخدام طاقتهما السياسية والاقتصادية والأمنية لتوفير الازدهار والاستقرار ولضمان أمنهما القومي والوطني وتوسيع وتعزيز مصالحهما المشتركة، تأكيداً لعلاقات الأخوة وضماناً لمصيرهما المشترك.

نستطيع القول بأن العلاقات السورية اللبنانية مرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة بمراحل مختلفة، من مرحلة إيقاف الحرب الأهلية اللبنانية إلى مرحلة ضبط القوى المتصارعة، والسيطرة عليها تمهيداً لتجريدها من سلاحها، والانتقال بها من مرحلة الصراع السياسي، وإعادة الهيكلية للنظام السياسي اللبناني، ومن ثم العمل على التحكم بها، وبين شد وجذب ظلت المعارضة اللبنانية للوجود السوري، تطالب على استحياء بخروج القوات السورية تحت سقف اتفاق الطائف حتى صدر القرار الدولي رقم 1559 في سبتمبر/أيلول 2004. 

ومن ذلك الحين استمر الضغط على سوريا من أجل الخروج من لبنان يتصاعد حتى جاءت حادثة مقتل الحريري لتزيد من هذه الضغوط بشكل أكثر وترفع الغطاء عن هذه العلاقة ومن ثم تدويلها والدفع بسوريا إلى احترام سيادة لبنان والتعاون الكامل مع لجنة التحقيق الأممية. 

فإلى أي حد تستطيع العلاقات الثنائية بين البلدين سواء في شقها التاريخي والسياسي والاقتصادي والثقافي والأمني أن تقلص من هوة الخلاف الذي نشأ بين البلدين بعد اغتيال رفيق الحريري؟ وترفع سيف التحقيقات الدولية عن رقبة النظام السوري؟

وسنتناول هذا البحث في فصلين. 

تاريخ العلاقات اللبنانية السورية

مرت العلاقات اللبنانية السورية بمراحل متباينة من التعاون والسلام تارة والأزمات تارة أخرى، وبالرغم من ذلك فهي علاقات مميزة، لإنهاء بين بلدين يحكمهما قدر التاريخ والجغرافيا وتداخل العائلات، وأيضاً الاحتياجات الاقتصادية والسياسية والمصالح المشتركة.

العلاقات السياسية والأمنية

بدا الاهتمام السوري بالوضع اللبناني، منذ هزيمة 1967، إلا أنه تضاعف مع بداية الحرب الأهلية عام 1975، فبعد حرب الأيام الستة، أصبح تكوين جبهة شرقية، أحد أهم أركان السياسة السورية.

ولدى اشتداد القتال في لبنان، بين الفئات المتنازعة (الحرب الأهلية اللبنانية)، كانت سوريا أسرع الأطراف العربية إلى الوساطة، بهدف إيقاف الاشتباكات، والتأثير في الموقف اللبناني، وترتيب الأوضاع اللبنانية. وانطلقت الوساطة السورية من قناعة دمشق بأنها الأكثر اهتماماً بما يجري في لبنان، نظراً إلى روابطها التاريخية بها، فمنذ فرض الاستعمار البريطاني والفرنسي، الوحدة الجغرافية للولاية السورية (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين)، ظلت النظرة السورية إلى التطورات السياسية والاجتماعية، في لبنان، متأثرة بفكرة الوحدة السياسية للكيانات الناجمة عن الأطماع الأجنبية، وأثناء الجولات العسكرية، التي كان يمر بها النزاع العربي-الإسرائيلي، كانت دمشق تستشعر أكثر من غيرها الخطر المتمثل في الوضع اللبناني، وإمكانية استغلال إسرائيل له، في ضرب الأمن السوري.

العلاقات السياسية

لا شك أن السياسة السورية تؤثر تأثيراً واضحاً في الشأن اللبناني، إذ إن الساحة اللبنانية هي مجال حيوي، بالنسبة إلى سوريا.

وأياً كانت الآراء حول الوجود السوري في لبنان، إلا أنه أسهم في الحفاظ على الكيان اللبناني، من خلال الدور الذي اضطلعت به القوات السورية في صراعات القوى اللبنانية المختلفة، إبان الحرب الأهلية، لمنع تفوق أي منها على القوى الأخرى.

والأسباب في تميز العلاقات السورية اللبنانية، لا ترتكز في أساسها إلى المعطيات الجغرافية البشرية والتاريخية فقط، بل إن الأهم في تميزها استناداً إلى الاحتياجات الاقتصادية والمصالح المشتركة للبلدين، واستناداً لمعطيات جيواستراتيجية وبخاصة فيما يتعلق بالصراع العربي-الإسرائيلي الذي ما زالت سوريا ولبنان، تمثل قاعدة المواجهة السياسية فيه، بعد أن ذهبت كل من مصر والأردن، والفلسطينيين في اتجاه التسوية السياسية مع إسرائيل، وتوقيع اتفاقات سلام معها.

لقد ترتب على أهمية وتميز العلاقات السورية اللبنانية، أن تم وضع ملف العلاقات بين البلدين في مستوى اهتمام أول في السياسة السورية، وحصر ملف العلاقات بأيدي أصحاب أعلى المناصب السورية منذ ثلاثين عاماً مضت.

فكان الملف في يد الرئيس الراحل حافظ الأسد، كما كان موضع المتابعة الأولى من وزير خارجيته الأسبق ونائبه لاحقاً عبد الحليم خدام، قبل أن ينتقل إلى يد نجل الرئيس وخليفته بشار الأسد.

ومنذ عام 1943 حتى 1974 وقع البلدان اتفاقيات، لكنها كانت في غالبيتها اتفاقيات تنظيمية للأمور المشتركة بين البلدين اللذين لم يتبادلا السفراء مطلقاً، وتجمعهما حدود مشتركة لم ترسم بالكامل حتى اليوم.

وفي عام 1989 وُقّع اتفاق الطائف ليعيد إحياء العلاقات الرسمية بين لبنان وسوريا، بعدما أقر الاتفاق مبدأ "العلاقات المميزة" بين البلدين بمباركة دولية وعربية.

وتُرجم هذا الاتفاق عبر معاهدة "الأخوة والتعاون والتنسيق" التي وقعت بين البلدين عام 1991.

واتفق البلدان على مساندة كل منهما الآخر في قضاياه الوطنية، والعمل على تنسيق سياستهما العربية والدولية. وتنسيق مواقفهما تجاه مختلف القضايا الإقليمية والدولية.

وقد شكلا لهذه الغاية مجموعة أجهزة، في مقدمها المجلس الأعلى اللبناني-السوري، الذي يتألف من رئيس الجمهورية والبرلمان والحكومة في البلدين.

وفي جميع الأحوال، لا يمكن تقييم الطرف الأكثر استفادة من هذه الاتفاقات، لأنها في غالبيتها لم تطبق بالكامل، أو لم تطبق مطلقاً.

غير أن جملة من التحولات طرأت فيما يتصل بالحضور السوري في لبنان، بسبب تطورات الداخل في لبنان وسوريا من جهة، والتطورات الإقليمية والدولية، وخاصة بعد اغتيال رفيق الحريري.

وقد مرت العلاقات اللبنانية السورية بعدة مراحل هامة.

مرحلة الحكم العثماني

خضعت بلاد الشام (الأردن وسوريا وفلسطين ولبنان) للحكم العثماني من 1516 – 1918. وكان استقلال هذه البلاد فعلياً في عام 1920 م.

التقسيم حسب معاهدة سايكس بيكو

بعد عزل السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1908، وبسبب الفساد والرشوة في الإدارة العثمانية، كانت الدوائر الأوروبية ترسم الخطط السرية فيما بينها، لاقتسام الدولة العثمانية، والتي كانت مظاهر تدهورها وانهيارها بادية للعيان. وهكذا فقد توصلت كل من بريطانيا وفرنسا في 16 من مايو/أيار 1916، إلى عقد معاهدة سرية لاقتسام المشرق العربي فيما بينهما. وجاءت هذه المعاهدة التي عُرفت باسم معاهدة سايكس بيكو، نتيجة محادثات دارت بين ممثل بريطانيا سير مارك سايكس، وممثل فرنسا مسيو جورج بيكو.

تسلم حزب البعث السلطة في سوريا

بعد استقلال سوريا ولبنان، وخروج فرنسا منهما، كانت العلاقات السورية اللبنانية على مستوى الاحترام المتبادل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، لكن لم ترتقِ هذه العلاقة إلى إقامة تبادل العلاقات الدبلوماسية، اعتقاداً من كلتا الدولتين أنهما أقوى بكثير من مستوى التمثيل الدبلوماسي. اختلفت هذه العلاقة تماماً بعدما تسلم حزب البعث مقاليد الحكم في سوريا والعراق، ودخول قوات الردع العربية إلى لبنان.

تواجد المنظمات الفلسطينية بعد حرب يونيو/حزيران 1967 مما أجج فتيل حرب أهلية طائفية، وكانت الشرارة الأولى لها عندما انفجرت حافلة فلسطينيين في ساحة طيونة في لبنان، لتظهر خفايا صراع عربي عقائدي يمتد إلى جميع فئات لبنان، على أثرها وبناء على اجتماع في الجامعة العربية، تقرر دخول قوات ردع عربية لكبح جماح هذه الحرب في تاريخ 12 يونيو/حزيران 1976.

اتفـاق الطائف

هو اتفاق تم التوصل إليه في  30سبتمبر/أيلول 1989 في الطائف في المملكة العربية السعودية نتيجة اجتماع المؤتمر الوطني اللبناني وأنهى هذا الاتفاق الحرب الأهلية اللبنانية. 

اتفاق العلاقات الأخوية التعاونية والتنسيقية بين سوريا ولبنان في مايو/أيار 1991، على أساسه ووفقاً لمطلب الرئيس اللبناني تبقى القوات السورية في إحدى البقاع حتى تباشر حكومة لبنان حقوقها الوطنية في كل البلاد وتنسحب إسرائيل من جنوب لبنان.

اغتيال رفيق الحريري وقضية التحقيق الدولية

في عام 2000 انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان، وارتفعت بعدها الأصوات المطالبة بانسحاب القوات السورية، وتطبيع العلاقات السورية اللبنانية، والحفاظ على علاقات الود والصداقة، وكان الحريري داعماً لهذه الأصوات إلى أن اغتيل في فبراير/شباط 2005- وباغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري تعرضت العلاقات السورية-اللبنانية إلى هزة عنيفة، ودخلت مرحلة من التعقيد والتأزم. وتم تشكيل لجنة تحقيق دولية بإشراف الأمم المتحدة، حيث أشارت هذه اللجنة وكما نوهت في تقاريرها الدولية، والتي رفعتها إلى الأمم المتحدة أصابع الاتهام إلى قوى خارجية دون تحديد أسماء، لكن مجمل التكهنات الإعلامية وأوساط التحليل السياسي تقول إن سوريا هي المتورطة في عملية الاغتيال.  

انسحاب الجيش السوري من لبنان، وقرارات الأمم المتحدة

بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري ثم انسحاب الجيش السوري كاملاً من الأراضي اللبنانية ومن ثم إصدار قرار 1559 والمؤرخ 2 سبتمبر/أيلول 2004، والذي ينص على انسحاب جميع القوات الأجنبية المتبقية في لبنان، وحل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها، أيد بسط سيطرة حكومة لبنان على جميع أراضي لبنان، وأعلن تأييد عملية انتخابية حرة ونزيهة في الانتخابات الرئاسية التي كان من المقرر إجراؤها، يلتزم فيها بقواعد الدستور اللبناني وبدون تدخل أو نفوذ أجنبي.

للحديث بقية..

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد عبيد الله
باحث في العلوم السياسية
باحث مغربي في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
تحميل المزيد