في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1945، وبعد عامين تقريباً على انهيار الحكم النازي في ألمانيا بقيادة هتلر، بدأت إحدى أشهر المحاكمات في التاريخ البشري، وهي ما عُرفت بمحاكمات نورنبيرغ، وفيها تمت محاكمة 24 من أبرز قيادات الحزب النازي بعدة تهم، أبرزها ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وجرائم ضد السلم.
ورغم كل الثغرات القانونية التي شابت تلك المحاكمات وطغيان الفكر الانتقامي على النصوص القانونية، وسيطرة القوى الكبرى بريطانيا وأمريكا والسوفييت على تشكيل المحكمة، فإن هناك جانباً آخر لذلك المشهد، جانب سبق المحاكمات، فقد كان النازيون في قمة عنجهيتهم وجبروتهم، معتقدين أنهم قد مَلكوا الدنيا، ولا يوجد من يستطيع إيقافهم وقد فعلوا ما فعلوا من جرائم ضد الإنسانية.
وبمرور الوقت استمرت مطاردة النازيين وتقديمهم للمحاكمة، التي تطور فيها الجانب القانوني، وكذلك شفافيتها، ولم يمنع مرور قرابة 76 عاماً على نهاية الحرب العالمية الثانية من تقديم الحارس السابق في معسكرات الاعتقال النازية جوزيف إس (100 عام) للمحاكمة، بتهمة المساعدة في قتل 3518 سجيناً في زاكسينهاوزن بالقرب من برلين.
ملأت الماكينات الإعلامية الصهيونية الدنيا بالقصص عن الهولوكوست، وهي التسمية المستخدمة للإبادة الجماعية لليهود في الحرب العالمية الثانية، ولأن الجرائم لا تسقط بالتقادم، حسب المواثيق الدولية، فإن محاكمة مجرمي النازية تعطي الأمل بمحاكمة قادمة لا محالة لمن ارتكب جرائم من الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني.
لا بد من الإشارة إلى وجود فوارق جوهرية بين الكيان الصهيوني والحزب النازي من نواحٍ وجودية، مثلاً النازية هي حركة فكرية ألمانية، أسَّسها المنتمون للحزب القومي الاشتراكي العمالي الألماني، وهم شباب ألمان، اعتقدوا أنهم بذلك يدافعون عن وطنهم، لكن تجربتهم انحرفت تماماً عن مسارها، وخلقت تجربة "شريرة" قلّما يراها التاريخ.
بينما الكيان الصهيوني مغتصب للأرض العربية، لا ينتمي لتربتها، ولا ينهل من مشاربها، غير متجانس مع محيطه، إذ تم إنشاؤه من خلال التنسيق بين بريطانيا وفرنسا، وفيه تم جمع يهود العالم من مختلف القارات، وكذلك تم تنصيب مجموعة من القيادات الإجرامية، جاء أغلبهم من دول شرق أوروبا، وذلك من أجل تحقيق مصالح الحركة الصهيونية العالمية.
الجرائم التي ارتكبها الكيان الصهيوني بمختلف أذرعه وعملائه لا تختلف كثيراً عن تلك التي تمت محاكمة النازية بسببها، بل إن العديد منها أكثر فظاعة، وبعضها موثقة بتقارير دولية، مثل مجزرة جنين عام 2002، الموثقة بتحقيق من الأمم المتحدة.
ولا شك أن الغطاء الدولي المتوفر حالياً للكيان الصهيوني، المتمثل في الدعم الأمريكي غير المحدود، والكثير من الدول الغربية، وأذرعهم في الشرق الأوسط، هو الأساس حالياً لوجود الكيان الصهيوني والمد في عمره، وتأجيل تلك المحاكمات، وذلك الغطاء قائم على أسباب متعددة بعضها أيديولوجي وأغلبها وظيفي، ولكنها بالمجمل زائلة لا محالة.
كيان أمني منبوذ
في الحياة السياسية غالباً ما تتغير المعادلات وبالتالي التحالفات بشكل جذري، وكثيراً ما انتهى وجود قوى عظمى من الساحة، مثل الاتحاد السوفييتي سابقاً، وما بدأ يطفو مؤخراً على السطح من تغيير جذري في طبيعة العلاقات بين دول المنطقة ونوعية الصراع الأمريكي الصيني، ومجمل هذه التغييرات مؤثرة على الكيان الصهيوني من نواحٍ وجودية.
ورغم مرور أكثر من 70 عاماً على نشأة الكيان الصهيوني فإن قادته يدركون عدم تجانس تركيبته الداخلية، خاصة لأسباب عنصرية فكرية، لذلك فهم يعملون جاهدين على تنويع علاقاته الخارجية، بناء على قواعد اقتصادية وعسكرية، وذلك من أجل إدامته أطول وقت ممكن.
من المؤشرات المهمة على فكرة حتمية زوال الاحتلال أنه وعلى عكس جميع دول المعمورة التي نشأت بشكل طبيعي، وعلى الرغم من مرور عشرات السنين على نشأة الاحتلال على أرض فلسطين، فإنه مازال كياناً أمنياً منبوذاً في المنطقة، بقياداته ومرتزقته، ومستهدف من الشعوب العربية، رغم إنفاق أموال طائلة على الجوانب العسكرية والاستخباراتية من أجل توفير الحماية لوجوده.
الحق لا يسقط بالتقادم
في الداخل الفلسطيني تزايدت مساحة الثقة الشعبية بدنوّ أجل الاحتلال، تحديداً بعد الأحداث المرافقة لتهجير سكان حي الشيخ جراح، ومن ثم معركة سيف القدس وما رافقها من تضامن شعبي دولي، وكذلك مدى تطور القدرات العسكرية للمقاومة الفلسطينية، ومؤخراً استعادة ستة من الأسرى حريتهم قبل أن يتم اعتقالهم مجدداً، وغيرها من الأحداث التي كُسر من خلالها العديد من الحواجز.
لقد كان الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وارتكاب المجازر بحق الشعب الفلسطيني هو المنهج الذي قام من خلاله الكيان، وهي الأسس القانونية التي ستتم بناءً عليها محاكمة قياداتهم ومجرميهم عندما يحين ذلك، وهو لا محالة سيحدث.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.