في 8 أيار/مايو 2008، أشهر أمين عام حزب الله شعار "السلاح لحماية السلاح"، للتمهيد لاجتياح بيروت والجبل في اليوم نفسه، وانقضاضه على المحكمة الدولية، وحماية المتهمين باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، معلناً بذلك بداية توسع سيطرة دويلة السلاح غير الشرعي على الدولة اللبنانية. منذ ذلك التاريخ توالت الشعارات الأخرى التي رفعها الحزب لتبرير "انفلاته" العسكري كذراع ضارب لإيران، ليس فقط في لبنان، بل في الإقليم.
فمن شعار "حماية المقامات" في سوريا ابتداءً من 2013، مروراً بمقولة "لولا حزب الله لوصل داعش إلى جونية" في عمق المناطق المسيحية في لبنان (عناصر داعش الإرهابيون أنفسهم، الذين عاد وهرّبهم حزب اللّه بباصات مكيفة من لبنان في 2017)، وهي شعارات برّاقة رُفعت للتغطية فعلياً على حماية حزب اللّه للديكتاتور السوري، وتبرير مشاركة مقاتليه في قتل الشعب السوري.
وصل الشعور بفائض القوة بحزب اللّه لدرجة أنه لم يعد يشعر اليوم بالحاجة لقفازات لفظية يتخفى وراءها، فظهر هذه المرة السلاح في الطيونة، على مشارف بيروت، فيما يبدو أنه لحماية النيترات، و"قبع" القاضي بيطار، أي بالتعبير الذي كان استعمله المسؤول الأمني في الحزب، وفيق صفا، لتهديد قاضي التحقيق العدلي في ملف انفجار مرفأ بيروت، القاضي طارق البيطار، ذاك الانفجار الرهيب الذي حصل في 4 آب/أغسطس 2020، بفعل أطنان من النيترات كانت مخزنة في العنبر رقم 12 في المرفأ.
ظهر السلاح هذه المرة بشكل فج، دون شعارات براقة، في "7 أيار" مصغّر نفذه حزب الله وملحقاته على مشارف عين الرمانة والمناطق "المسيحية" في بيروت وعلى تخومها، في محاولة مفضوحة لاستدراج الأحزاب المسيحية، لا سيما القوات اللبنانية، لمواجهة مسلحة، كي يتم تحويل قضية معرفة الحقيقة في انفجار المرفأ إلى نزاع طائفي، وذلك في استعادة عبثية بشعة لمشهدية الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت من تلك المنطقة بالذات، واستمرت لخمس عشرة سنة.
فبعد بدعة الأمن بالتراضي، يبدو أنّ الحزب يريد فرض واقع القضاء بالتراضي، فإما تنحية القاضي بيطار الذي تجرأ على توجيه الاتهام لوزيرين سابقين من حركة أمل، بالإضافة إلى وزير سابق من تيار المردة ووزير سابق كان يدور في فلك تيار المستقبل، ورئيس الوزراء السابق حسان دياب، وإما شل عمل الحكومة من قبل وزراء الثنائي الشيعي والمردة، ونزول الثنائي الشيعي إلى الشارع في عروض مسلحة للقمصان السود.
صحيح أنه يدور جدل قانوني كبير حول عمل القاضي بيطار، لا سيما إذا كان البيطار مصيباً في اجتهاده حول الشق الدستوري، المتعلق باختصاصه كمحقق عدلي في التحقيق مع وزراء ورئيس حكومة سابقين، فيما يخص ممارسة مهامهم الوزارية، أو مخطئاً، كما بيّنت ذلك استشارة قدّمها أحد كبار فقهاء القانون الدستوري في فرنسا، دومينيك روسو، الذي يعتبر أنّ المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، الذي نصت عليه المادة 80 من الدستور اللبناني، هو صاحب الاختصاص لملاحقة رئيس الحكومة والوزراء السابقين ومحاكمتهم، وليس قاضي التحقيق العدلي ولا المجلس العدلي.
من الممكن، لا بل من الأرجح أن يكون البيطار على خطأ، على الأقل في بعض جوانب عمله، ولكن الأكيد هو أنّ الخطأ لا يجب أن تتم معالجته بخطيئة، أي كما يفعل حزب اللّه وملحقاته.
أما الأهم، فهو أنّ تحرك حزب الله هذا يصادف الذكرى السنوية الثانية لانطلاقة الحراك اللبناني، في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، ضد الطبقة السياسية وفسادها الذي أوصل لبنان إلى كارثة اقتصادية ومالية ونقدية كبيرة، ترجمت بحجز أموال المودعين في المصارف، وانهيار دراماتيكي لقيمة العملة الوطنية مقابل الدولار، وارتفاع جنوني في الأسعار، وانقطاع الدواء والمحروقات، وتوقف الخدمات الأساسية المقدمة من الدولة كالكهرباء، بسبب عدم توفر الأموال لدى الدولة اللبنانية لتأمينها.
كما بيّنا في مقال سابق (في لبنان.. انتفاضات عديدة وليست انتفاضة واحدة)، أنّ أسباب فشل الحراك كثيرة، لا سيما أنه اتصف بالطابع الاجتماعي فقط، وبالعموميات، وبخوفه من العناوين السياسية، لا سيما عدم جرأته على معالجة قضية سلاح حزب الله الذي يشكل أصل الداء في البلد، إذ إنّ وجود هذا السلاح غير الشرعي يشكل بحد ذاته خرقاً يومياً ومتمادياً لسيادة الدولة اللبنانية ولمبدأ حصرية السلاح بيدها وحدها، لا سيما أنه لا إمكانية لقيام الدولة ونهوضها في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والمالية، في ظل هيمنة دويلة الأمر الواقع التابعة لإيران (حزب الله)، على قرار الدولة اللبنانية.
فكثير من القوى المشاركة في الحراك ما زالت تغرق في التعميم، لا سيما فيما يخص مسؤولية القوى السياسية التقليدية عما آلت إليه أحوال البلد، وهو تعميم على قدر كبير من الرياء ومن الظلم ومن الخطورة، إذ ينتج عنه عملياً تجهيل الفاعل الأساسي في البلد، أي حزب الله، وذلك خوفاً من مجابهة غطرسة هذا الأخير وسطوته على لبنان.
فكثير من قوى وشخصيات الحراك ما زالوا -حتى بعد ما جرى مؤخراً في الطيونة وعين الرمانة- يكتفون بالإشارة بأصبعهم إلى كامل أعضاء الجسد المحموم (أي كل الأحزاب والقوى التقليدية بشكل متساوٍ)، بدل أن يضعوا إصبعهم على الجرح الأساسي، حيث الالتهاب الذي يسبب الحمى القاتلة في هذا الجسد (أي حزب اللّه).
ولكن يغيب عن هؤلاء أنك لن تكون "موضوعياً" إن ساويت بين الضحية والجلاد، بل ستكون مجرد شريك للجلاد، وشريك جبان أيضاً، وأنك لن تكون "حيادياً" إن تخفيت وراء تعميمك بالمسؤولية على جميع "الزعماء" في أمر معين، بل ستكون مجرد مرتكب جبان لجرم أخلاقي هو تغييب الحقائق، وتضييع الحق، فلا موضوعية خارج الحقيقة، لأنّ الموضوعية لا تكون إلا بقول الحقيقة، كل الحقيقة، كما هي، ولا حياد أمام الحق، لأن الحياد أمام الحق هو قبولك الضمني بأن يكون متساوياً مع الباطل.
إنّ الجرأة على قول الحقيقة كما هي بوجه حزب اللّه ومواجهة هيمنته على البلد أصبحت واجبة على الحراك، اليوم أكثر من أي وقت مضى، لأنّ مصير التحقيق في انفجار المرفأ أصبح اليوم على المحك، لا سيما أمام إرادة حزب اللّه الجلية في إغراق التحقيق في مستنقع الطائفية ومتاهات المذهبية، كمقدمة لتشويهه والالتفاف على الحقيقة في معرفة من المسؤول عما حصل في المرفأ، لا سيما من استقدم النيترات، وخزنها، واستعمل جزءاً منها على مدى سنوات قبل انفجارها.
فمهما حاول حزب اللّه وأعوانه، تبقى العدالةُ في انفجار بحجم انفجار المرفأ وتداعياته هي قضية لبنانية، قضية عابرة للطوائف وفوق الطوائف، قضية إنسانية تخص الإنسان كإنسان، مهما كانت جنسيته وانتماءاته، وأينما كان في العالم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.