كانت قرود الغابة أجرأ مني في الاقتراب من عبد القدير خان، أبي القنبلة النووية الباكستانية، والحديث معه، وكنت أستغرب أثناء دراستي الجامعية في إسلام آباد من رؤيته يُطعم الحيوانات البرية بيديه، ويلاعبها في غابة قبالة منزله على مشارف جبال مارغالا، والعقل الباطن يحدثني بهيبة كبيرة تحيط بالرجل تمنعني من الاقتراب منه.
وأدركت بعد انخراطي بالعمل الصحفي مدى تواضعه الجمّ وإنسانيته، فتوجهت إليه ذات يوم بعد فراغه من صلاة الجمعة لطلب لقاء صحفي، فرحّب ودعاني إلى منزله، فكان سؤالي الأول عما حققه من التجارب النووية، فقال لي بهدوء ورفق لقد جنّبت بلادي والمنطقة حرباً رابعة، وهو يشير بذلك إلى الحروب الثلاث الشاملة التي خاضتها باكستان مع الهند منذ استقلاليهما.
الفكاك من فكّي كماشة
ربما كانت الهند سعيدة بالتدخل السوفييتي في أفغانستان أكثر من السوفييت أنفسهم، لكن فرحتها لم تدُم طويلاً، وتشهد على ذلك أحداث جنوب آسيا منذ عام 1986، وذلك عندما ضاقت روسيا ذرعاً بدعم باكستان المفتوح للمجاهدين الأفغان، فاتفقت مع الهند على وضعها بين فكي كماشة، فحشدت الدولة العظمى وحليفتها الإقليمية قواتهما على حدود باكستان، واحدة من الشرق وأخرى من الغرب، والهدف كان إنهاء قضيتي أفغانستان وكشمير مرة أخرى وإلى الأبد، حتى لو كان ذلك بتفكيك باكستان.
وفي ذلك الصيف الساخن في جنوب آسيا، دعا مدير المفاعل النووي الباكستاني الدكتور عبد القدير خان ثلاثة صحفيين لتناول الغداء معه في منزله الخاص، اثنان منهم يمثلان وكالتي أنباء دوليّتين، وكان لقاءً غير رسمي، ولا يبدو أنه يحمل بعداً سياسياً، وأثناء تناول الغداء سأل أحد الصحفيين الضيوف مؤسسَ البرنامج النووي الباكستاني إن كانوا قد توصلوا بالفعل إلى صنع قنبلة نووية، فكان رده بسيطاً هادئاً مختصراً: "لقد صنعنا الكثير".
وما إن انتهى غداء عبد القدير خان النووي حتى انهالت الاتصالات على الرئيس الباكستاني الراحل الجنرال ضياء الحق، فزعماء العالم خاصة الغربيين منهم ألحوا في التحقق من صحة ما صدر عن مدير مختبرات كاهوتا النووية، والتي كانت تصر باكستان على أنها مخصصة للأغراض السلمية، وسادت الساحتين الدولية والباكستانية حالة "حيص وبيص" لعدة ساعات، خرج بعدها ضياء الحق الساعة العاشرة مساء بتوقيت باكستان، ليعلن أن عبد القدير خان ليس مخولاً بالحديث نيابة عن الدولة الباكستانية، وإن كان قد تحدث بالفعل فقد زل لسانه وأفتى بما لا يعلم.
الرئيس VS عبدالقدير
لكن "زلة لسان" خان أفشلت استراتيجية الكماشة الهندوسوفييتية، فالحسابات تغيرت بين وجبتي الغداء والعشاء، وأعلنت نيودلهي عن استعدادها للحوار مع باكستان، وسحب قواتها المحتشدة على الحدود، وحلّت دبلوماسية الكريكيت الباكستانية محل أجواء التصعيد، وفاجأ الجنرال ضياء الحق غريمة بلاده بالإعلان عن نيته زيارتها لحضور مباراة كريكيت وُدّية بين فريقي البلدين.
كانت رئيسة وزراء الهند أنديرا غاندي صريحة بعد تجارب الهند النووية الأولى عام 1974، عندما قالت لو كنا نعلم أن لدى باكستان برنامجاً نووياً ما كنا لنقدم على تجاربنا في صحراء راجستان، لكن هذه الكلمات كانت ملهمة لطالب الفيزياء النووية في هولندا، فقرر العودة إلى بلاده ليبدأ مشروعه.
انتظر عبد القدير خان أسابيع ليسمح له بلقاء قصير مع رئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو، ويطرح عليه فكرة تأسيس مشروع نووي وطني، فكان رد بوتو أنه ليس بمقدور البلاد تحمل الأعباء الاقتصادية والسياسية لهذه الخطوة، التي من شأنها استفزاز القوى الدولية، وقد خرجت إسلام آباد لتوها من حرب خسرت فيها شطرها الشرقي (بنغلاديش)، ووقع نحو 95 ألف جندي باكستاني أسرى لدى الهند، فكان رد عبد القدير خان أنه لا يطلب من رئيس الحكومة سوى الغطاء الأمني لمشروعه.
مشروع غير مكلّف
كانت فكرة الدكتور عبد القدير خان، كما رواها لي، لا تقوم على أساس توفير أموال ضخمة للمشروع وإنما علاقات عامة في السوق الدولية، فما يمتلكه من معلومات أو معدات يحتاجها آخرون، ويمكنه المقايضة بما لديه مع ما يحتاجه، وكان يرى أن العلم ملك للإنسانية، وليس حكراً على الدول القوية.
وروى أنه وقف ذات يوم على سطح ناطحة سحاب في دبي، وسأل مرافقه عن ثمن مجموع السيارات الفارهة التي تحيط بالمبنى، وكانت الحسبة أن ثمنها كافٍ لصناعة ما يكفي لحماية البلاد ومدخراتها.
تحقّق حلم عبد القدير خان بعد 10 أعوام من بداية مشروعه النووي بإجراء أول تجربة نووية باكستانية في المختبر، وبقيت إسلام آباد جاهزة بغموضها النووي، إلى أن حانت لحظة الإعلان بالرد على التجارب النووية الهندية الثانية، في مايو/أيار عام 1998.
تغيّر الواقع الدولي بعد التجارب النووية الباكستانية، وأكمل عبد القدير خان برنامجه النووي ببرنامج صاروخي لإيصال القدرات النووية إلى أهدافها، وذلك في إطار حصار اقتصادي مطبق فرضته القوى الدولية بسبب المشروع النووي.
خان والساسة
لم يكن عبد القدير خان، الذي يُعرف بحامي باكستان، سعيداً بساسة بلاده، لكنه تعايش معهم بما يحقق الأهداف العليا للبلاد، وعلى رأسها البرنامج النووي، وقد رأيته يشعر بالامتعاض والمغص وهو يشاهد نشرة الأخبار من إثارة السياسيين بتصريحاتهم للعنصرية بين فئات الشعب، كيف ولا وقد عاش مرارة العنصرية في صغره من قبل الهندوس في الهند، وعانى رحلة الهجرة مع أمه مشياً على الأقدام من مسقط رأسه في بوبال الهندية، إلى مدينة لاهور الباكستانية.
وقد نالت منه تداعيات أحداث 11 سبتمبر/أيلول، ولم يكن بإمكانه التأثير على سياسة التحالف المفتوح مع الولايات المتحدة، فكان الخوف على البرنامج النووي الذي استولى على كل اهتمامه، فأجبر على طلب العفو من الرئيس مشرف لاتهامه من قبل الغرب بمخالفة اتفاقية منع الانتشار النووي، وهي الاتفاقية التي لم توقع عليها باكستان.
فرض عليه الجنرال برفيز مشرف إقامة جبرية في منزله، ومنعه من التواصل المجتمعي عدة سنوات، لكنه تحدى مشرف في أول لقاء له مع الصحافة بقوله: إذا أراد مشرف أن يعرف من هو المعزول عن مجتمعه فليقابلني في السوق الشعبي لراولبندي (مدينة مجاورة للعاصمة إسلام آباد)، وليقف كل منا على طرف شارع لنرى من سيلتف حوله الناس.
سألته ذات مرة في بداية الانتفاضة الثانية عما يمكن فعله لنصرة فلسطين، فأجاب أن من يحيطون بفلسطين قادرون على تحريرها دون مساعدة أحد، وقال إن عدد سكان دول الطوق يزيد عن 100 مليون نسمة، وقادرون على تبني سياسة التحرير الكامل للقدس وفلسطين، وأردف أن باكستان بنت ردعها النووي والصاروخي بنفسها، فلمَ لا تحذو حذوها الدول التي احتُلت أراضيها؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.