عندما أراقب خط التطور الفكري لسيد قطب ألاحظ أن هناك ثلاث صفات أساسية غلبت عليه ولم تفارقه حتى النهاية، هي: الحزن، والقلق، والعناد.
سيد قطب بين متناقضات
فمنذ أن كان صبياً وهو يتحدث بلوعة وحزن شديدين عن الماضي الجميل الذي ولى ولن يعود! ويرتبط بهذا الحزن الغريب وغير المفهوم قلق ممض ومرهق للأعصاب ربما يرجع إلى عدم الشعور بالأمان الذي عاشه في طفولته لأسباب اجتماعية وسياسية، منها على سبيل المثال الجو العام الذي ساد مصر إبان فترة الحرب العالمية الأولى وثورة 1919 وما تلاها.
وكان إلى ذلك يتميز أيضاً بعناد شديد مرجعه في رأيي الاعتداد المغالى فيه بالنفس -برأيي-، وكان هذا العناد يجعله لا يلين من تلقاء نفسه، وإذا خاصم يصل بخصوماته حد العداوة المقيتة التي لا ينساها أبداً وتظل تخطر له في مقالاته التالية بأشكال متنوعة وعجيبة.
وكل هذا طبع أسلوبه وقاموسه اللغوي بسمات ملازمة تغلب عليها القسوة والحدة والسخرية المريرة التي قد تبلغ حد السباب أحياناً، كما حدث في هجومه المستنكر على الشيخ أمين الخولي وزوجته عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ).
ورأيي أن عنفه اللغوي وجرأته الشديدة هما ما جعلا الشباب الصغير يفتتن به، خاصة في مرحلته الأخيرة عندما اكتسى قاموسه اللغوي بصبغة إسلامية واضحة وغلبت عليه المباشرة والخطابية.
وكان لكل هذه الصفات بالطبع أثرها البيّن في النهاية المأساوية التي انتهى إليها. ببساطة لأنها جعلته يألف العيش على الأطراف ويشعر بعدم الألفة في منطقة الوسط، إذ كان لا يبقى فيها إلا قليلاً حتى ينتقل لطرف آخر ربما يكون معارضاً لما سبق!
ولكل هذا عاش سيد قطب حياته السياسية والفكرية في حالة صراع دائم وتنقلات مستمرة بين المذاهب والاتجاهات المتباينة سياسياً. وفي كل مرة كان يعبر عن تنقلاته هذه بلغته الحادة القاسية التي لم تفارقها نغمات الحزن والأسى والقلق الممض. وكانت صداماته لا تنتهي مع العقاد وطه حسين وأبي شادي وسلامة موسى وأمين الخولي ومحمد مندور وغيرهم كثير ممن طواهم النسيان.
وفي سياق تنقلاته التي لا تهدأ وصداماته التي لا تنتهي يمكن أن نفهم بعض كتاباته التي تبدو متناقضة، بسبب انتمائه السريع لاتجاهات سياسية وفكرية تبدو متناقضة ثم تركها بذات السرعة مرة أخرى.
على سبيل المثال انتماؤه للماسونية لفترة في الأربعينيات، تحديداً خلال الحرب العالمية الثانية وأهوالها التي كانت تعيشها مصر. وهذا الانتماء بالمناسبة لم يكن عيباً وقتذاك، وقد انتمى إلى الماسونية طابور طويل من أعلام مصر ومفكريها، في الغالب لفترة تجريبية ثم تركوها.
وهذا في رأيي هو السبب في حالة سيد قطب أيضاً. فدافع هذا الانتماء في رأيي سياسي غرضه التجريب ومعرفة التطورات الفكرية الجديدة. أما تركه لها، أي للماسونية، فهو في رأيي لعاملين أساسيين: أولهما الأساسيات الدينية العقدية الراسخة التي تفعل فعلها دائماً في كل تنقلاته الفكرية والسياسية، وثانياً القلق الإنساني الممض الذي أشرت إليه، والذي كان يزداد بتقدمه في العمر. وهذا القلق في رأيي هو ما كان يصيبه بالملل السريع ويدفعه للانتقال السريع لشيء مغاير ربما على الطرف الآخر.
ماذا لو عاش سيد قطب أكثر؟
وبسبب كل ما سبق، فإنني كثيراً ما أتخيل أن سيد قطب بعد انتمائه للإخوان لو كان عاش في وضع طبيعي ولم يطارد ولم يسجن وترك يمارس عادته في القلق والملل والتنقل بين الاتجاهات لكان قد ترك الإخوان بالتأكيد وبحث عن شيء آخر. ورأيي أن وضعه وهو الصعيدي بعد القبض عليه للمرة الأولى هو الذي جعله لا يترك الإخوان حتى لا يقال عنه "جبان"، وهنا تحديداً لعب العناد دوره المميت فكانت نهايته المأساوية!
وأختم هذا المقال بتنبيه صغير وهو أنني قلت في الفقرة قبل السابقة إن "الأساسيات الدينية العقدية لدى سيد قطب كانت راسخة دوماً وتفعل فعلها في كل تنقلاته السياسية والفكرية". وسبب ذلك أنني أعتقد أن كل هذه التحولات التي مر بها سيد قطب لم تكن تحولات جذرية كما يريد البعض وإنما تتم بسبب الملل والعناد. ولذا دائماً ما أردد أن القول بتحول "جذري" لسيد قطب هو مجرد أكذوبة بحثية.
فسيد قطب ومنذ البداية (رجل درعميّ) مثله مثل حسن البنا، درس الكلام نفسه في المكان نفسه وعلى أيدي الأساتذة أنفسهم فترسخت لديه أساسيات دينية عقدية لم تتغير قط.
وهذا يبدو في كل ما كتبه منذ البداية وحتى النهاية. نعم كانت تحدث له تجارب تنتج تراكمات وإعادة صياغة لأفكار قديمة، ولكنه في رأيي لم يتغير قط من النقيض للنقيض كما يزعم البعض ممن اكتفوا فقط بقراءته كأديب وناقد ثم فوجئوا بكتابته في الإسلاميات مع أن هذا هو الطبيعي لأي دارس في دار العلوم، فهذا كما ترى ليس خطأ سيد قطب بالتأكيد!
سيد قطب كان ومنذ البداية ناقداً حاد الطبع قاسياً في استخدامه للغة التي كان يتقنها بشكل مذهل عجيب! وهذا منذ الثلاثينيات وقبل أن ينتمي للإخوان تنظيمياً أو يكتب "معالم في الطريق" بفترة طويلة جداً! ورأيي أنه كان سينتهي للنهاية نفسها سواء ذهب لأمريكا أم لم يذهب! ولهذا تحديداً فإنني أرى أيضاً أن موضوع تأثره برحلته لأمريكا هو أيضاً "مجرد أكذوبة بحثية"!
وهو لم يرسل إلى أمريكا إلا لتخفيف نزعة العنف التي تسيطر على كتاباته منذ فترة طويلة، ولكن الرحلة لم تنجح في هدفها، والسبب في رأيي أن عوامل المقاومة أو الحصانة في نفسية سيد قطب كانت أقوى كثيراً من عوامل التأثير هناك، لذا عاد "عنيفاً" كما ذهب، ثم واصل تطوره إلى نهايته المحتومة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.