النطف المهربة.. ليس بحثاً عن الحياة بقدر ما هو إصرار على إكمال مسيرة عمرها آلاف السنوات من التضحية والجهاد لأجل تحرير الأراضي الفلسطينية وأقصاها المُحتل. يسعى الأسرى الفلسطينيون جيلاً بعد جيل إلى تحقيق حُلم التحرير والعودة الى الديار المهجّرة، فبزغ أمل الإنجاب من خلف القضبان كطريقة للحفاظ على أمل العيش وتحدي الاحتلال وإنجاب أبناء وإعداد جيل التحرير، للقدس، والأقصى، وكل فلسطين، رغم هذه الظروف الصعبة، أو التي كانت حين ابتكار الفكرة "مستحيلة".
لذلك ابتكر الأسرى الفلسطينيون فكرة "النطف المهربة" من سجون الاحتلال، تستطيع زوجة الأسير إنجاب طفل رغم بُعد المسافات التي تفصلها عن زوجها ومرارة المعيشة في ظل غيابه، ولكن الأمل الذي ينحدر من عزيمتهم قادرة على إحياء أمة بعد بؤسها.
سمى الفلسطينيون الأطفال الذين تم إنجابهم عبر النطف المهربة "سفراء الحرية"، هؤلاء الذين تحرروا من السجون نطفاً ليس أكثر، أصبحوا أطفالاً يحملون معالم آبائهم، أملاً في تحرير الأسرى وبالتحرير الأكبر لفلسطين المحتلة.
ليس من السهل تطبيق هذا الأمر، ولكن المستحيل ليس فلسطينياً، لذلك يعمد الاحتلال إلى المضايقة على الأسير الذي يقوم بهذا الفعل عبر فرض بعض التضييقات عليه أبرزها حرمانه من رؤية طفله لسنوات لعدم اعترافه به.
ذلك كله بالتأكيد لا يغني عن فكرة الحرية الكاملة للجسد والفكر والروح، ولكنها تخفف من وطأة محاولات الاحتلال المتواصلة لحرمان الفلسطيني من ممارسة حقه الإنساني بالحرية والزواج والإنجاب والعيش السعيد في ظل عائلة كاملة المقومات، لذلك كلما اختار الاحتلال أن يحرمنا حقّ الوجود، اخترنا نحن أن نمنح لأنفسنا حق التأصيل والتجذر والاستمرار.
إن ذلك يعبر عن تمسك كبير بالحياة، وعن فلسفة الفلسطيني، فإنها دلالة تأصيل الحق والتمسك بالمسلوب حتى يعود، وبالمحتلّ حتى يتحرر.
إن فكرة النطف المهربة قائمة على صعوبات كبيرة جداً وخشية كبيرة من عدم نجاحها لطبيعة الظروف الاعتقالية التي يمرّ بها الأسير، وصعوبات الزيارة وإجراءاتها التعسفية، إلا أنها وبمنّة الله لاقت نجاحاً لأكثر من 200 طفل باتوا سفراء الحرية حتى يتحرر آباؤهم من الأسر.
كان آخرهم -حتى كتابة هذه المقالة- هو الأسير الفلسطيني إسلام حامد الذي يواصل الاحتلال اعتقاله منذ 6 أعوام ويمضي حكماً بالسجن 10 أعوام بتهمة مقاومة الاحتلال، حيث أنجبت زوجته التوأمين محمد وخديجة بالنطف المهربة، الأمر الذي شكّل بارقة أمل لدى إسلام وجميع الأسرى وأهاليهم بأن الإنسان يمكنه أن يصنع الحياة رغم كل القيود.
ويأتي هذا الأمل بعد أمل عظيم أبرقه ستة أسرى حين انتزعوا حريتهم من سجون الاحتلال المحصّنة مطلع سبتمبر/أيلول المنصرم، الأمر الذي يؤكد أن الفلسطيني يبحث عن الحياة والوجود بكل الطرق وقادر على إيجاد ما يتناسب مع حالته ليبزغ على يديه الأمل من جديد مع كل حادثة عظيمة تسلبه فكرة المستحيل وتسجل على ناصيته عنوان "المستحيل ليس فلسطينياً".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.