تمنحنا الفنون بمختلف أنواعها قدرة كبيرة على تقبل الأشياء والأشخاص مهما بدت مختلفة عنا، من خلال التناول الفني والعرض الجمالي لها، فكما تقول الروائية ماري آن إيفانس، المعروفة باسم "جورج إليوت":
"إن لم يوسع الفن حدود التعاطف الإنساني فلا نفع له من الناحية الأخلاقية".
الفنون بكل أشكالها بوابات لعوالم أوسع، مختلفة، سحرية، متناقضة، جذابة، وشيّقة، وهي في ذات الوقت قادرة على تهذيب النفس ومنحها قدراً ما من الإشباع بالجمال.
The Guilty أو "المذنب"
في فيلم The Guilty الصادر حديثاً من إنتاج شبكة نتفلكس العالمية نشاهد الممثل الأمريكي جيك جيلنهال في واحد من أبرز أعماله في دور "جو بايلور"، ضابط الشرطة الذي ينتظر محاكمته في صباح اليوم التالي في قضية قتل قد يؤدي الحكم فيها إلى السجن لعدة أعوام، ما يعني عدم رؤيته لابنته شديد التعلق بها.
في أحداث The Guilty، يتم إبعاد بايلور عن العمل الميداني، وتحويله مؤقتاً لقسم الرد على مكالمات الطوارئ والنجدة. يعمل بايلور تحت رقابة مشرفة تتابع خط سير الرد على المكالمات.
من الدقائق الأولى في The Guilty تتسارع وتيرة الأحداث بطريقة منطقية وسلسة، وترتفع نسبة الأدرينالين في الدم حينما يتلقى الضابط بايلور مكالمة من امرأة مخطوفة، ثم يكتشف حقيقة القضية من خلال عدة مكالمات يحاول فيها مساعدتها.
ثلاثة أماكن للتصوير
في The Guilty تظهر عدة شاشات تعرض بثاً مباشراً لمقاطع حية من حرائق الغابات الأمريكية، بينما طوال أحداث الفيلم الذي تبلغ مدته ساعة ونصف الساعة لم يتم الانتقال بالكاميرا إلا إلى الحمام والغرفة الداخلية الملحقة بالصالة المخصصة لتلقي المكالمات، ورغم ذلك فإن محدودية الانتقال بالكاميرا لم تؤثر على عناصر الإثارة والتشويق أو المتعة المصحوبة بالترقب للأحداث التالية، مما يحسب للمخرج الأمريكي "أنطوان فوكوا.
عمد أنطوان فوكوا في The Guilty إلى الاعتماد على زوايا تصوير ضيقة، قريبة من وجه جيك جيلنهال بشكل مستمر معتمداً على لغة جسده، وخاصة تعابير وجهه عند الغضب والبكاء والتوسل أو تصنع الهدوء لنقل المشاعر إلى المشاهد بكثافة عالية. وكان للوجه غير المحايد للممثل جيك جيلنهال دور حاسم في القدرة والتميز الذي ظهر بهما جيلنهال في The Guilty وسمح له باستعراض قدراته التمثيلية في مقطوعة فردية شديدة الإتقان.
الوجه القبيح للمرض النفسي
تُعاني المرأة المخطوفة، إيملي لايتون، التي تتصل على الضابط بايلور، من عدة أمراض نفسية، ربما هلاوس أو اضطراب ثنائي قطب، تعاني من أمراض عديدة تسببت في إيداعها في مصحة نفسية لمدة طويلة. ولكنها تسببت أيضاً في الزج بزوجها إلى السجن بسبب تراكم الفواتير المستحقة عليه، وفي الغالب بسبب عجزه عن العمل بسبب رعايته لأطفاله الصغار في ظل مرض الأم.
يبدو تجسيد المرض النفسي هنا عكس أغلب الصور التي يتم تناولها في السينما، سواء العالمية أو العربية، تبتعد هنا صور المرض النفسي عن الشاعرية المفرطة أو الجنون الذي لا يصاحبه تشخيص طبي سليم. يظهر هنا صوت الممثلة رايلي كيو مضطرباً ومتذبذباً بشكل بالغ، تبدو امرأة متصدعة بصوتٍ باكٍ لا يشي بأي عيوب عقلية، وتنجح في تصدير هذه الصورة للضابط الذي يحاول جاهداً مساعدتها من خلال الهاتف.
البكاء في وجه كل شيء
يبكي كل أبطال The Guilty تقريباً نتيجة لكل ما يتعرضون له من ضغوط بالغة، تبكي طفلة صغيرة ظناً منها أنها فقدت أمها، وتبكي الأم على فقد ابنها الذي تطعنه، لأنها تعتقد أنه يبكي بسبب ثعابين تسكن بطنه! بينما يبكي "هنري فيشر" الذي قام بأدائه الصوتي الممثل بيتر ساسجارد، لأنه فقد كل أسرته بسبب مرض زوجته وبسبب تراكم فواتير المصحة النفسية. تبدو لحظة البكاء من الفواتير وكأنها بيت القصيد.
الغلاء أزمة عالمية، أزمة العلاج النفسي التي لا تُعد أزمة عربية فقط من حيث ثقافة تقبل المريض النفسي ودمجه في المجتمع، ولكنها أزمة عالمية بكل ما يتعلق بها بداية من الوصم حتى التكاليف المرتفعة، يبكي الرجل لأنه اضطر لإخراج زوجته من المصحة لارتفاع التكاليف، الأمر الذي أدى لكارثة طالت كل العائلة.
في الأداء الصوتي المميز أنت لا يمكنك التخلي عن متابعة الصورة. اضطرابات وجه "جيك" تجعلك تشعر بنفس توتره وقلقه، لحظات الشعور بالذنب القاتل تفيض منه وتجعله أكثر عصبية.
ينكشف للحظة شعور جو بايلور بالذنب حينما يعترف بارتكاب جريمة القتل بلا سبب واضح تقريباً، تتداعى كل محاولات صموده أو إيجاد سبب منطقي لفعلته؛ وبما أن محاكمته ستجري صباح يوم المكالمة فإنه يعترف على الهاتف للمرأة التي تحاول الانتحار من أعلى الجسر فيما يشبه التطهر أو جلسات الاعتراف التي يمارسها الناس أمام قس الاعتراف. اعتراف بايلور كان أشبه بالقربان السماوي الذي يتم تقديمه فداءً لتحقيق رغبة ما.
في اللحظة التي قرر فيها جو الاعتراف، والتي كانت تعني خضوعه للسجن لم يكن أي شيء يشغل باله إلا إنقاذ المرأة من الانتحار حتی لو أن هذا يعني أنه سيتم حرمانه من رؤية ابنته خلال سنوات طويلة، ربما ساهم هذا بإنقاذ المرأة فعلاً، وتسبب تصرفات جو بإنقاذ الطفل، لتأتي المشرفة فيما بعد لتخبره بأن المحطمين ينقذون المحطمين.. جملة يمكنها أن تمثل بارقة أمل لكل الناس.
لا أحد ينقذ أحداً
حينما يصرخ "هنري"، زوج "إيميلي" التي يتضح فيما بعد أنها مريضة نفسية وأن زوجها لم يكن يريد قتلها أو خطفها، بل إنه أراد أن يضعها في المصحة النفسية مرة أخرى بسبب تدهور حالتها النفسية وطعنها لطفلها الصغير ظناً منها أن بكاءه نابع من وجود ثعابين في بطنه، يردد هنري: لا أحد يساعد أحداً، يحددون لك أخصائيين اجتماعيين ونفسيين، ولكن لا أحد يساعد أحداً.
تبرز هنا مساوئ المرض النفسي على جميع المحيطين. لا يشعر المريض بأي محاولة تتم لإنقاذه من مرضه بسبب تعقد الأمر داخل رأس المريض، لا أحد يقدر الوقوع في الفخ الذي تنصبه الدماغ أو الضغوطات الاجتماعية علی الجميع، وتبدو النجاة هنا مسؤولية فردية خالصة، لذا حينما يحتاج جو بايلور لتبرير جريمته لإيميلي في محاولة منه للتخفيف من شعورها بالذنب لإصابة هنري أو مقتل طفلها الصغير أوليفر، فإنه لا يحتاج لأكثر من كلمتين يمكنها أن تفهمهما، وهما تحملان كل الرمزية والمعاني التي تشير للمرض النفسي، حينما تسأله لماذا قام بجريمة القتل؟ ومن ثم تتساءل: هل الثعابين؟ فإنه يجيبها بنعم.
هنا تبرز رسالة الفيلم، لكل شخص منا ثعابينه الخاصة، ربما تظهر في صورة عصبية مفرطة أو غصب شديد غير قابل للتحكم كما في حالة جو بايلور، أو في صور اضطرابات عنيفة وهلاوس كما في حالة إيميلي وربما في صور أخرى عديدة قد لا نعرف وصف دقيق لها، ولكنها تأكل أدمغتنا أو بطوننا.
المرض النفسي هو ما يأكل المرء وهو علی قيد الحياة، هو ما يأكل الرأس والجسد، هو الحالة الأشد قسوة من صور المعاناة والوحدة في عالم شاسع ربما لا نجد فيه أحداً يساعد أحداً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.