حين فتحتُ عيني على الدنيا، وجدت أبي وأمي في غرفتهما، ووجدت المكتبة والمكتب في غرفتي، وعلى قسمٍ من أقسام المكتبة، كان مكتوباً بخطٍّ عربي جميل فوق الزجاج، "اللغة العربية". عرفتُ فيما بعد، أن صاحب ذلك الخط هو أبي، وأنه بحد ذاته أستاذ في اللغة العربية، تخرج في كلية دار العلوم، ويعمل مدرساً بالأزهر الشريف، متخصصاً في علوم النحو، والصرف، والبلاغة، والعَروض، وأن الكلمة المكتوبة على قسمٍ بالمكتبة، مقصودٌ بها أن تلك الكتب الجالسة فوق الرفوف، كتب في علوم اللغة.
وفهمتُ، من حيث لا أدري، واقتنع عقلي الباطن من دون أن أنتبه، أنه إذا كانت غرفتي هي كل عالمي في ذلك الوقت، وتشغل المكتبة مساحةً غير قليلةٍ منها، فإن المعارف والعلوم يجب أن تشغلني أكثر من أي شيء، وإن كانت المكتبةُ بدورها رمزاً للمعارف والعلوم، وكان نصفها مخصصاً للّغة وحدها، فإنني يجب أن لا يشغلني شيء فيها أكثر من اللغة، فهي بابٌ لما في الرفوف الأخرى، ومدخلٌ لذلك العالَم، وأصلٌ تحته، وثمارٌ فوقه.
وعليه، لم تكن اللغة العربية بالنسبة لي أمراً من الأمور الزائدة، أو من فضلات المعرفة، أو حصةً لا تضاف إلى المجموع، وإنما وجدتها حينئذٍ بحراً، خلف الزجاج، لا يقتحمه إلا من سار كما يسير الضوء.
حين أتى بي أبي، وأجلسني بين يديه، وطلب مني الكلام، وأسمعَني ثناءه عند كل كلمة أنطقها صحيحةً حتى ولو لم أتعلم بعدُ قاعدتها، جعلني ذلك أقف قبل كل لفظٍ، وأتحرى فيه الصحّة، فإن شعرتُ به مريحاً في أذني، ومستقراً على سمعي، مرّرتُه إلى لساني، فيخرج الكلام مضبوطاً "بالفطرة"، ويمتلئ صدري بشيءٍ عميق، وشعور وافر، تجاه ذلك الشيء الذي صار الطريق الأولى بيني وبين عيون أبي اللامعة.
فيما بعد، كانت "حصة اللغة العربية" متعةً خاصة، يتذمر فيها الأولاد ربما وتحديداً من تعليقات المعلّمة على موضوعات التعبير والإنشاء، أو على الأمثلة في واجبات النحو، لكن كانت تلك الحصة فقرتي المفضلة، ليس اعتقاداً مني بأني أفضل من زملائي في شيء، أبداً، وإنما لأنني أشعر بأنها وقتٌ أحبه، وقتٌ أقضيه من دون ملل، تشرح الأستاذة -حفظها الله- في اجتهادٍ وتبسيط، وأنتبه لما تقوله وفي ذهني صورة المكتبة التي في البيت، والكلمة المكتوبة بخطٍُ عريض (اللغة العربية).
ويتحدث معي أبي بالفصحى أحياناً، في جمَلٍ قصيرة، ويشرح لي شيئاً تعثّر عليّ أحياناً أخرى، في أحاديث طويلة، ويقرأ لي ربما أبياتاً من الشعر، وهو يعطيني درساً من دروس الحياة، ويؤدبني ويهذبني بلسانه القويم قبل أي شيء آخر، وأشعر وأنا بين يديه بموسيقى تتعتّق أكثر وأكثر في أذني، وتتخذ من صدري مُتّكأً، ترتاح فيه، وتستظل به.
وأجلس أمام التلفاز، أشاهد سبيستون، أسمع شارات البداية والنهاية لحلقات الكارتون، بصوت السيدة رشا رزق، وأردد معها، وبداخلي شعورٌ فرِحٌ، بلساني الذي يزداد استقامةً، فيصير اعوجاجه في اللغة أقل، وينطق الصحيح أكثر وأكثر، وأمام عيني أرى مَشاهد حياتي اليومية، وفي أذنيّ شيءٌ ما، يحاول ترجمتها إلى الفصحى.
ويقفز إلى رأسي السؤال: ماذا لو كان العالَم كله من حولي يتحدث الفصحى؟ يتعاركون بالفصحى، ويتصالحون بالفصحى، ويلقون النّكات بالفصحى، ويواسون بالفصحى؟ ماذا لو كانت تلك هي اللغة الدارجة في ألسنتنا؟ ولا بأس بالعامية في الحوارات، فاللغة العربية فيها مساحةٌ أن نحوّل بعض الكلمات عنها، ونلوي أعناق الحروف كثيراً لكنها ما تزال تسعُنا، لكن، ماذا لو اجتهد الناس في أن ينطقوا اللغة العربية الفصحى صحيحةً متى أرادوا؟
وسمعتُ القرآن الكريم، وتلوتُه، وحفظتُ جُلَّه، وكان مقياساً لانضباط لساني، متى تعثرتُ في جملةٍ، جعلت القرآن معياراً، أو كان القرآن معياري من حيث لا أدري؛ ما إعرابُ الاسم الذي يأتي بعد حرف "إنَّ"، إنَّ الولدَ أم إنّ الولدُ؟ تأتي في بالي آية القرآن: "إن اللهَ وملائكتَه…" إلى آخر الآية، فأعرف أن اسم "إنّ" يأتي منصوباً، وما إعراب الذي يأتي بعد "كانَ"؟ "وكان له ثمرٌ"، إذاً، ثمرٌ هي اسمُ "كان"، وبالتالي فاسمُ كان يأتي مرفوعاً.
وهل صديقي أكثر ذكاءً أم أكثر ذكاءٍ؟ يأتي في القرآن الكريم، في تكملة الآية السابقة: "وكان له ثمرٌ فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُّ نفراً"، مالاً ونفراً، أتت كل واحدة منهما تمييزاً، منصوباً، وعليه فهي تمييز، وبالتالي: صديقي أكثرُ ذكاءً.
وكل يوم، ومع حرص أبي وأمي على متابعتي في اللغة، واستماعهما لي جيداً، وتشجيعي في كل مناسبةٍ على أن أكتب بيتاً من الشعر، أو نصاً نثريّاً، نمَت اللغة أكثر وأكثر، وزاد تعلقي بها، وصرتُ أشفقُ على أصدقائي، حريصاً على أن أشجعهم على تعلمها.
ووسط كل هذا، قبل إجادتي قراءة القرآن وتلاوته، وقبل أن أكتب بيتاً أو عبارةً، وقبل أن أقرأ كتاباً أو روايةً، أظنُّ أن تعلقي باللغة وُرِّثتُه من أبي، ومن ركن اللغة العربية في غُرفتي، ومن الساعات التي قضيتها أمام الكارتون الذي بالفصحى، وكلها أمورٌ يمكن توفيرها، لينشأ جيلٌ محبٌّ للغة، حريصٌ على تعلمها، لأننا -كما يبدو- في مرحلةٍ في غاية الخطورة، من تدهور حالنا وحالها.
فليس مطلوباً أن يكون الأبُ دارساً في دار العلوم ولا أستاذاً في اللغة العربية، وإنما يكفيه أن يكون مهتماً باللغة، حريصاً على تنميتها، ويجعلها نصب عينيه، حتى إذا رزقه الله بالزواج والولد، ربّاه على "ركن اللغة العربية" وجعله أمام عينه، فينشأ ناشئ الولدان منّا على ما كان عوّدَهُ أبوهُ.
وأن يشاهد الطفلُ من التلفاز أو اللابتوب أو الهاتف -متى أتيح ذلك وفق المعقول والصحيح- أفلامَ الكارتون وحلقاته بالفصحى، فينمو ذلك لديه من دون مجهود كبير، وكذلك مع انتقاء تلك السلاسل، وأن يسمع القرآن الكريم حوله ولو لم يكن يفهمه، لكن تلك الكلمات والتراكيب ستترسخ في عقله لا محالة.
وأن يدرس النحو والأدب والنصوص، ويتذوق الشعر، ويشعر بالكلام الحلو من حوله، فيمتنّ للغة العجيبة التي تضمّ كل هذا، ولا بأس بأن يتعلم الطفل لغاتٍ أخرى، لكن لا ينبغي أن يسبق العربيةَ إلى لسانه أو سمعه شيءٌ آخر، حتى ولو كان في المهجَر، في بلاد لا تتحدث العربية إطلاقاً.
وأخيراً، أشعرُ بامتنانٍ عظيم، وقبله حمدٌ لا ينتهي لله، أن تلك هي لغتنا، التي نتحدثها من دون جهد، ونتعلمها من دون ثقل، ونتحدث بها متى أردنا ولو كان فيها لحن، ونعبّر بها عن مكنونات أنفسنا، فنشعر بسعةٍ في صدورنا، ودقّةٍ في عقولنا، اتساقاً مع سعة اللغة ودقتها، فنتخلّق بأخلاقها.
وهي البليغة، ومن تحدثها صحيحةً من دون تحذلقٍ، كفاه ذلك ليكون بليغاً، ومن أسهبَ فيها من دون إطالةٍ مُخلةٍ أو اختصارٍ مُقلٍّ، كفاه ذلك ليكون فصيحاً، ومن قصدها ليجد عندها ضالته عاد وفي جعبته أكثر مما كان في رجائه، ومن ضلّها إلى غيرها يرجو الغنى خرج فقير المعاني محدود الألفاظ، ومن تمسّك بها فكأنما يتمسك بحياته ونجاته قبل أن تكون حياة اللغة ونجاتها، كأنه يتعلم كيف يقول "أنقذوني" بين قومٍ لن يجيبوه إذا قال لهم وهو يصيح: "Help me!".
وعليهِ، هكذا أحببتُ اللغة العربية، وهكذا سأغرس في أولادي وإخوتي -الحقيقيين والمجازيين- حبها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.