استطاعت السينما المصرية أن تلعب دوراً مهماً في الصراع العربي الإسرائيلي، من أعمال فنية ما زالت خالدة في أرشيفنا، وكانت أفلاماً هادفة وتعالج الأحداث في حقبة تاريخية من الصراع، وتسهم بنقل الصورة من داخل المجتمع المصري الاجتماعي والسياسي، وقد تم إنتاج فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي" عام 1974، وما زال حاضراً في ذاكرة الكثير بالنسبة لأجيالنا التي عاشت تلك الفترة التاريخية؛ وكان من بطولة محمود ياسين ونجوى إبراهيم، وكذلك فيلم "أبناء الصمت".
وكنا صغاراً في الصف الرابع الابتدائي أثناء نشوب حرب (تشرين الأول) 6 أكتوبر عام 1973. كانت أجواء الريف المصري مختلفة في الحياة، كانت بسيطة للفلاح في الزراعة وتربية المواشي، ونظام الدورة الزراعية الثلاثية، حتى كان موسم الأفراح مختلفاً، معظم الزواج يتم في موسم الشتاء بعد الحصاد، وكانت البيوت الريفية من الطوب اللبِن، وكان مسقط رأسي بالقرب من قاعدة جوية في المنصورة، ومحاط بها معسكرات للدفاع الجوي.
وكنا نعيش أجواء الحرب كل يوم على أزيز الطائرات وصفارات الإنذار، وكنا نغني في الشوارع "طفي النور يا ولية إحنا عساكر دورية"، وفي الإجازة المدرسية نذهب إلى فرق المقاومة في حقول القطن "العونة الفرقة" نجمع اللطع من أوراق القطن المصابة بدودة القطن، ونرتدي الكاب العسكري لحماية الرأس من أشعة الشمس من الساعة السابعة صباحاً حتى الخامسة مساءً، ونفتخر بالكاب، وفي المساء نسمع الراديو والمسلسلات ونشرات الأخبار وعلى إذاعة صوت إسرائيل نسمع برنامج "حديث العم حمدان" يتحدث عن مصر.
كنا في بداية العام الدراسي وموسم الحصاد من المحاصيل الصيفية من القطن، والذرة، والأرز، وقبل الإفطار في رمضان كنا ننتظر المؤذن حول ساحة المسجد يصعد إلى سطح المسجد، ويطل علينا ليخبرنا عن الوقت المتبقي قبل موعد الإفطار. فجاء ناظر المدرسة وتجمع حوله الأهل من المنطقة ليتحدث عن خبر مهم، عن عبور القوات المسلحة المصرية إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، وأن قواتنا تواصل القتال بشراسة مع العدو، فعَلَتْ الأصوات وكبّر الأهل "الله أكبر، عبَرْنا"!
لم نفهم الكلمات ونحن صغار، وكنا نردد فقط الأغاني الوطنية، وفي اليوم الثاني من المعركة يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول ذهبنا إلى المدرسة اعتقاداً أن الأمور صارت عادية، وقبل وصولي إلى المدرسة تقابلت مع مدرس وفتح جورنال الأهرام وقال: "إجازة! إحنا في حالة حرب" ولم ينتهِ أستاذي من الحديث حتى كانت السماء كلها ناراً من غارة وقصف مدفعي وصواريخ وسقوط خزانات وقود طائرات من السماء، فأسرع رجل وقام بحملي ناحية شجرة كبيرة أمام مبنى الإصلاح الزراعي، فوقف بعض الرجال فوق كوبري المحطة الفرنسية في قريتنا في حالة من الجدل أثناء الاشتباكات الجوية؛ هل هي طائرة مصرية أو إسرائيلية؟ وكأننا أمام مشاهدة مباراة تلفزيونية، وانتهت الغارة الأولى على الدلتا بسقوط 7 طائرات إسرائيلية، فعاشت قريتنا أجواء من الحرب الحقيقية.
وكنا نجلس بعد صلاة العصر أمام المسجد نسمع حواراً شيقاً مع رجل يسمع إذاعة لندن ويقلد لنا صوت المذيع "هنا لندن". وأثناء الغارات كان الفلاحون يجمعون القطن فهربوا من شدة القصف من الحقول وتركوا العمل بسبب سقوط طلقات نارية وخزانات وقود في الحقول أثناء الاشتباكات.
وظلت الغارات على القاعدة الجوية ثلاث مرات، كان لمعظم البيوت أبناء في الجيش لم يعودوا منذ النكسة، ولم يتم تسريحهم لظروف الحرب لسنوات، كان الناس لهم روح أخرى، ليس لديهم تفكير اليوم، من الصراع المادي وحالته التي تشبه مرض الصرع والحرص على الرفاهية حتى ولو كان على حساب بني جلدتهم أو فقد أرواحهم.
بعد انتهاء المعركة بدأت مصر تدخل مرحلة من فك الاشتباك، الأول والثاني، ودخلت في خلاف مع سوريا وليبيا، ففي عام 1978 دخلت مصر مرحلة جديدة برحلة "السادات" للقدس وتوقيع اتفاقية "كامب ديفيد" لنعيش على اقتصاد السوق ونظام "الانبطاح الاقتصادي" واقتصاد الريع وظهور القطط السمان التي ظهرت عقب فترة "الانفتاح" من النهب والاتجاه ناحية الغرب، وأن 99% من اللعبة في يد أمريكا كما كان يرددها السادات، ودخلت مصر في علاقات مقطوعة مع معظم الدول العربية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.