صحيح أنّ الفكر الإنسانيّ أوجد طرق تعبير عديدة، إلّا أنّ اللغة وإلى حدّ بعيد كانت قادرة على ملامسة وجدان البشر، فنحن نحتاج اللغة لكلّ شيء؛ للحبّ وللطّبخ وللحرب، نحتاجها لذاتها ونجد فيها أعلى إمكانيّة لصوغ حركة الوجود فينا وحولنا، فمثلاً عندما أردنا التعبير عن الإيماء وحركات الجسد صنّفناها على أنّها لغة. ولكن إذا كانت اللغة قيمة أصيلة توازي ديناميّة الكون وتتزامن معها بل وتخلقها بوعي الذّات الناّطقة بها، فأين يكمن الفاصل بيننا كمتحدثين باللغة ومفكرين بها وموجدين لها وبينها هي في أصل وجودها؟ هل هي موجودة خارج حدودنا البشريّة؟ هل هناك حدود بين اللغة والوجود والإنسان؟ ما اللغة التي يتحدث بها الكون؟
احتفت الرّوايات العربيّة بالحضور السّريّ للغة في حياة الشخصيّات، رسماً وخلقاً وقدرة على الإيهام بواقعيّتها، ليس لأنّها تحمل فكر الجماعة التي تنتمي إليها فحسب، إنّما لكونها محاكاة للدّواخل الدّفينة التي تعطي لكلّ خلق فرادته. وقد ذهب بعض الكتّاب أبعد في طرحهم، فتمحورت مثالاً لا حصراً، رواية للكاتبة اللبنانيّة نجوى بركات بعنوان "لغة السّر"، حول جدليّة علاقة اللغة بالفكر في حياة البشر؛ أو بمعنى أدقّ بجدلية علاقة اللغة بالوجود الإنسانيّ وعلاقة اللغة الوجودية بالغيب، إذ تطرح قراءة النّصّ أسئلة من نحو: إذا كان الوجود كلمات الله كما تذهب الرّواية على لسان أحد شخصيّاتها، فإنّ الكلمات هي دليل وجوده، والسّؤال الذي ترميه في وجوهنا: ماذا لو أنّ الكلمات غير موجودة؟ هل نحيا وهماً؟
للتوضيح سأختصر قصّة الرّواية. تحكي بركات قصة قرية اليسر ولوحها المحفوظ، لوح القضاء والقدر الموجود في أخوية الوفاء حيث يتنسك إخوان مريدون كما تصفهم، يكرسون حيواتهم لخدمة أهل القرية بالحجب والتعاويذ من جهة، ويعملون على إنهاء قاموس أسرار الكلام الذي يحوي معاني الحروف الربانيّة من جهة ثانية. يسرق خلدون فتى الوراق لوح القضاء والقدر، يريد الانتقام من الإخوان وشيخهم الأكبر، لأنهم لم يختاروه ليشغل وظيفة حارس للأخوية كخاله، واستعانوا بمن لا يتمتع بمؤهلات حراسة الأخويّة وصونها من الاعتداء. تنقلب أحوال أهل القرية، فيبعث الخفير رسائل استغاثة إلى الولاية، ليصل المأمور وبوصوله تتأزم الأمور؛ إذ يسعى الإخوان إلى كشف هوية السارق بعيداً من عينيه، تفادياً لتدخله في شؤونهم ومعرفة عملهم في قاموس الكلام، لذلك يقصد الشيخ الأكبر القرية بعد أن كان قد تركها منذ أكثر من خمسين سنة، تحول فيها إلى الشيخ الأكبر للإخوان، ليلتقي بخلدون الذي كان ينتظره ويتوق إلى زيارته لأنه اكتشف الحقيقة؛ وهي أنّ لوح القضاء والقدر الذي سرقه كان فارغاً. يلفق الشيخ الأكبر تهمة قتل سكير القرية لخلدون، فيحكم عليه بالشّنق، وهو صبيّ للشيخ العلايلي صاحب دار الورق والذي كان أكبر الإخوان قبل أن ينفصل عنهم، والذي يتهم الشيخ الأكبر بمحاولة قتله بإحراق دكانه وهو حي فيه، فيصدقه النّاس والإخوان، وساعتها لا يبقى أمام الشيخ الأكبر إلّا أن يحرق المزار والصندوق واللوح ونفسه أمام أعين العلايلي وخلدون والمأمور. ليبقى أمر الصندوق هائماً هلاميّاً، فلا نعرف إن كان حقيقة أم وهماً.
يهزّ المبدعون بشكّهم بؤرة وعينا، يرمون بحجر صغير في بركة وجودنا، فتستدير فينا دوائر مغلقة حتّى تصل إلى لبّنا ولا يبقى لنا إلّا إعادة التفكير في اللامفكر فيه، أو فيما لا يسمح لنا أن نعيد التفكير فيه، أو نعيد تأويله كما يناسب لحظة وعينا التي نحياها. فمثلاً ينظر الخطاب الدينيّ/الأورثوذكسي كما يسمّيه المفكر المغربي محمّد أركون إلى العقل على أساس أنه مطلق وأزليّ، ويراه المفكرون كونه عقلاً تاريخياً له نقطة تشكل وبداية ونهاية "العقل هو عبارة عن مغامرة، أي تشكيلة تاريخيّة تدخل التاريخ وتتحكم به لفترة من الزمن تطول أو تقصر ثم تنتهي يوماً ما"، ولكنّ القضيّة تكمن في أين تكمن مصلحة الإنسان، أهي في الشك أم في التسليم؟ هل يمكن لوجودنا البشريّ أن يظلّ مؤمناً بنظريّة واحدة قابلة لتأويل كلّ شيء واحتواء الحقيقة كاملة بهيّة صافية؟ تطرح بركات سؤالاً غاية يضعنا في عمق الحقيقة، في لجّة خطابنا الوجوديّ الذي قدّمناه طويلاً، ليست وحدها من يشكّك، وليس المقال مشكّكاً في الحقيقة المطلقة الواجدة لكلّ شيء، لكن إذا فعلاً أمكن للعقل أن يخترع وجوداً خارجاً عنه، فهل اللغة/الإنسان والله كلمات اخترعها العقل؟ هل هي خارج العقل المطلق؟ على صعيد آخر إذا كان العقل متغيّراً تاريخيّاً هو قادر بالأصل أن يخترع ما هو أكثر ديمومة منه؟ هل هناك ما هو أبعد نحتاج أن نعيه كي نعي الحقيقة؟
يرى أركون أنّ "العالم مزيف وغير حقيقيّ في الوقت ذاته، إذ إنّ الصورة التي نشاهد العالم عليها حقيقيّة ولكنهّا ليست كما هي عليه. إذاً العالم المتكوّن من كلمات؛ العالم الماديّ الملموس كما العالم المفاهيميّ قائم بالأصل من كلمات: فالروّح كلمة كما أنّ البحر والهواء والحبّ والطّعام واللون الأصفر والكراهية والعائلة والأصدقاء كلّها كلمات، ألا يبدو طبيعيّاً وسلساً جدّاً أنّ الحقيقة ماديّة أو معنويّة كلمات… أليست الحقيقة ذاتها كلمة؟ ألا تتبدّى لكلّ فئة أو جماعة أو فرد أم مؤسسّة أو زمن حقائقه الخاصّة، وتبقى في نظر مريديها واحدة وأصيلة؟
كان أفلاطون وأرسطو يريان الحقيقة "هي واقع أنطولوجيّ معقول يوجد خلف المدارك الحسية، إلا أنّ هذا الواقع في اعتقاد أفلاطون مفارق للعالم الحسي، وهو في اعتقاد أرسطو محايث له (متصل به). أمّا ديكارت فيختلف عن الفيلسوفين، لأنّ الحقيقة في نظره، غير موجودة في الواقع لأنّها بناء عقليّ يتم من خلال عملية الشك. هكذا يكون الفكر هو الذي يحتضن الحقيقة، ولا وجود لحقيقة خارج الفكر." إذا ما نظر إلى الحقيقة بمعنى ارتباطها بموضوع معيّن، اكتسبت صفاتٍ دون الدّيمومة، وتناقضت مع الأصالة والحريّة، وقد يجوز تسميتها واقعاً ما في لحظة ما في إطار وعي مرتبط بمكان ما وتاريخ ما ووعي خاصّ ما مرتبط إلى حدّ يتسع أو يضيق بأنماط مسبقة، وهي تالياً مضلّلة وزائلة. فأين القيمة الكامنة فيها وهي كلمة مرتبطة بالوعي المطلق الحرّ الخالص؟ وأين القيمة المطلقة للفكر الذي أنتجها؟
قد لا نتوصّل إلى إجابة عن تلك الأسئلة، ولكن إن كان النّصّ الدينيّ شاهداً مقبولاً، فإنّ في آية 1:1 إنجيل يوحنّا" في البدء كانت الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله" كما في قصّة الخلق ونبوءة آدم "… قلنا يا آدم أنبئهم بأسمائهم" إشارة واضحة إلى ارتباط الوجود بالكلمة/ اللغة، بوجود الإنسان وحريّته وأصالته مهما اختلفت التفسيرات أو تباينت أو تضادّت، كما أنّ وجود اللغة/ الإنسان أمكن من إيجاد معنى الله.
الحقيقة والوهم جدليّة يحدّدها الوعي، وعلاقة الإنسان بالمفهومين علاقة صراع تتجاذبها عوامل عديدة، وهي في الوقت نفسه علاقة مصيريّة، فهو إذ يسعى إلى الحقيقة، بكونها لغة، قد يرى انعكاسها أو وهمه، وهي إذ تقدّم الإجابات يمكن أن تطرح الأسئلة، فهي متحرّكة وخلّاقة ومحمّلة بالدّلالات وديناميّتها لانهائيّة، كما أنّ امتدادها في الزّمن متشّعب وذو مسالك متغيّرة…اللغة/ الكون هنا سرمديّة ولا محدودة، إنّ انطلاقها المتجدّد وديمومتها تجعلها الحقيقة المطلقة الأكيدة والوحيدة ولك أن تقيس عليها وهمك أو حقيقتك فيكون وعيك أو لا يكون.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.