عكس المتوقع، لم يكن وجهاً سمحاً لكنه كان -وعلى نحو مزعج- وجهاً غير قابل للنسيان.. لحية طويلة رباها ربما خلال عام أو أقل وتعمّد بعثرتها وعدم تشذيبها، شارب محفوف، عيون لئيمة، وأنف يوحي لسبب ما بأن صاحبه إنسان جشع.. هكذا حُفر وجه "أبو هريرة" في ذاكرتي، لا أستطيع تذكر وجه الطفلة البالغة من العمر خمسة عشر عاماً، لكني لا أستطيع أن أنسى أنها كانت تبكي وترتجف لدرجة أنني لا أذكر الآن سوى خدود حمراء وعينين غائرتين من كثرة البكاء.
2013 كان عاماً ثقيلاً على قلبي، ذاكرتي تجتر الدماء التي شهدتها عيناي، تستحضر صور أصحاب غيَّبتهم سجون النظام وآخرين توارت أجسادهم تحت الثرى، وأين أنا من كل هذا؟ في الكويت، أنعم بحياة طبيعية كأن المئات لم يفقدوا حياتهم في مجزرة الغوطة، كأن أخي لا يقبع في معتقلات الأسد، كأن موسى وإبراهيم ووجيه الذين شاركتهم مقاعد الدراسة العام الماضي لا ينامون الآن على أرض باردة وقد تقرحت أجسادهم من جراء التعذيب.. كيف لي أن أرتكب إثم النسيان وأبقى هنا؟
العام الذي تلاه كان أفضل حالاً، فقد خرج أخي أخيراً من المعتقل، وحققت كذلك إرادتي بالعودة إلى سوريا بعد جدالات كثيرة مع والدايَ الرافضين للفكرة.
لم يكن يوماً عادياً ذاك الذي قطعت فيه الحدود التركية، فعندما وصلت إلى الجانب السوري من معبر باب الهوى كانت رائحة الهواء مختلفة، أكثر نقاء بشكل واضح -أو هكذا بدت لي على الأقل- وأخيراً وصلت إلى المكان الذي "أنتمي إليه"، أو هكذا كنت أعتقد.
كان عليّ أن أجتاز ثلاث نقاط تفتيش تابعة لـ"أحرار الشام" قبل أن أدخل "بلادي"، بدا الأمر روتينياً في البداية فقد مر كثير من الرجال الملتحين وآخرون حليقو الذقون دون أن يوقفهم أحد، لكن ولسبب لم أكن أعرفه حينها، أوقفني أحد عناصر الحاجز، فلنسمِّه "الجندي المجهول رقم واحد".
طلب مني الجندي المجهول رقم واحد إبراز جواز سفري، كان شاباً عشرينياً نحيلاً وقصير القامة يحمل بندقية ثقيلة بصعوبة بالغة على ظهره، وما إن فتح الجواز حتى احمرت وجنتاه غضباً، توسعت حدقتا عينيه وزمّ أنفه وشفتيه كأنه طفل أناني استحوذ أحدهم على أعز ألعابه، وبعد ثوانٍ من الصمت انفجر صائحاً: "وين الحجاااب؟!"، فأجبته ببرود: "على رأسي"، وبالفعل لم أغفل عن وضعه على رأسي قبل دخولي، "وشو مشان الصورة؟".
– هل تريدني أن أعبث بأوراقي الرسمية وأرسم لك حجاباً على رأسي في صورة الجواز؟
استفزه الرد الذي أعقبه سجال طويل علا على أثره صوتي، خاصةً أن الجندي المجهول أصر على اصطحابي إلى "المكتب الأمني".
– على جثتي.. لن أتحرك من هنا
كان عنيداً، وكنت أكثر عناداً منه، وأقلقت أصواتنا المرتفعة بقية العناصر على الحاجز، فتدخل رجل أكبر سناً وأكثر حكمة وسمح لي بالعبور.
على نقطة التفتيش الأخيرة أوقفني مجدداً شخص آخر، لنقل إن اسمه الجندي المجهول رقم اثنين.
لاحظ الجندي المجهول رقم اثنين أن وثائقي الرسمية "تدعي" أنني من سراقب، والمشكلة أنه من سراقب أيضاً لكنه لا يعرفني.
كنت على وشك الانفجار في وجهه هو أيضاً لولا وصول ابن خالي أنس لاصطحابي، ولأنه ووفقاً للأعراف الجديدة لا يحق للنساء التجول دون "محرم" فقد ادعى أنس أنه زوجي، رمقنا الجندي المجهول رقم اثنين بنظرة شك لكنه سمح لنا أخيراً بالعبور.
أمضيت عدة أيام في سوريا وأنهيت عملاً كنت قد بدأته مع واحدة من المنظمات "الإنسانية" (التي يفرد لها في الواقع الكثير من الحكايا المستقلة)، ثم عدت إلى تركيا وكان يتوجب عليّ بالتأكيد المرور من نقاط التفتيش ذاتها، لكني هذه المرة كنت بصحبة أنس.. تذكرني الجندي المجهول رقم واحد عندما شاهدني مجدداً، وأجرى اتصالاته على الفور ثم هرول إلينا: أبو هريرة يريد رؤيتكم.
توجهنا إلى مكتب أبو هريرة وبينما نحن في غرفة الانتظار قابلتها هناك.
أخمن أنها كانت في الخامسة عشرة من عمرها، تجهش بالبكاء بينما ترتجف كل خلية في جسمها، بالكاد استطاعت أن تشرح لي سبب بكائها وسبب وجودها فيما يدعى بـ"المكتب الأمني". بصعوبةٍ فهمتُ أنها كانت متوجهة مع أبيها إلى مشفى باب الهوى وأضاعته، وبينما كانت تبحث عنه اقتادوها إلى هذا المكان، في تلك اللحظة دخل علينا "أبو هريرة".
عندما قالوا لي إن "أبو هريرة" يريد رؤيتي، لم أتوقع على الإطلاق أن يكون وجهه سمحاً كالصحابي رقيق القلب الذي كان يشفق على الهررة ويخبئها في كُم ثوبه، فقد قابلت خلال زيارتي القصيرة لسوريا العديد من "صحابة القرن الحادي والعشرين" من أبي بكر إلى أبي عبيدة، وأياً منهم لم يمتلك شيئاً من سمات الصحابة الحقيقيين.
وكما هو متوقع، أرخى أبو هريرة لحيته وبعثرها، وحف شاربه وارتدى أزياء يُعتقد أنها كانت دارجة قبل 1400 عام بين صفوف المسلمين وكفار قريش على حد السواء. لم أنتظر حتى يبدأ بالكلام، باغتُّه: إنها مجرد طفلة كيف سولت لكم أنفسكم إحضارها إلى هنا بدلاً من أن تساعدوها على إيجاد والدها؟! ترفّعَ أبو هريرة عن النظر إليّ، وكلم محرمي: "اتبعاني".
دخلنا إلى غرفة أخرى تشكل على ما يبدو المكتب الأمني لأبو هريرة، بصوت عالٍ -على غير عادتي- وحانِق -على غير عادتي أيضاً- بادرتُ بالحديث عن وقاحة جنود المعبر وانعدام إنسانيتهم لدرجة احتجاز طفلة في هذا المكان عوضاً عن مساعدتها وعن تحول مهامهم من مواجهة النظام إلى إيقاف النساء وإزعاجهم.
لكنه تجاهل كل ذلك وقرر نقاش القضية الأكثر أهمية: كيف سأعرف أنكما فعلاً متزوجان؟ أريد إثباتاً بدفتر عائلة أو ما شابه، لم أعط فرصة لأنس الدبلوماسي بالرد وصرخت: "إثبات شو، من هذا الذي يصدر دفتر عائلة عند الزواج هذه الأيام؟ أتريدنا أن نذهب إلى مناطق النظام لنستخرج لحضرتك دفتر عائلة؟".
– قاطعني أنس: "تستطيع الاتصال بأخيها لتتأكد بنفسك، لكنكم مدينون لنا باعتذار إن تأكدت أنها زوجتي حقاً".
وهكذا أصبح أبو هريرة مديناً لي باعتذار، ليس فقط بسبب الاتصال بأخي الذي يعلم أن أنس ادّعى مسبقاً أنه زوجي أثناء دخولي إلى سوريا، لكن كذلك بسبب تدخل "أبو ياسر"، وهو صديق لأنس يعمل مع "أحرار الشام"، تدخل عندما سمع بالواقعة وأخذ أبو هريرة جانباً وهمس له: "هَي البنت أخت ناشط مدني ومعتقل سابق عند النظام، وزوجها مراسل للأورينت، بكرة بيعملولنا فضيحة".
تنحنح "أبو هريرة" بعد سماع نصيحة "أبو ياسر" وعاد إلينا بوجه مختلف، هدأت نبرة صوته وصار فجأة أكثر ألفة وفاجأني بقوله: "طالما أنه زوجك بالفعل إذا أردت فسأحضر العنصر الذي أزعجك كي يعتذر لك"، فقلت له: "لا أريد أن أرى وجهه ولا أريد أن يعتذر أريد فقط ألا يزعجني أحدهم عندما آتي إلى هنا مرة ثانية".
لم يكن ذاك انتصاراً، فلم أستطع أن أعرف مصير الفتاة الصغيرة التي اختفت من الغرفة المجاورة، وعلى الرغم من أنني حصلت على "مشروع" اعتذار وتعهُّد بعدم الإزعاج في المرات القادمة، شعرت بالمرارة عندما خرجت من "المكتب الأمني" وفكرت.. بشار الأسد في الجنوب و"أبو هريرة" في الشمال.. هل يمكن للمكان الذي "أنتمي إليه" أن يكون أكثر تعاسة من ذلك؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.