في تجربة شخصية فريدة للغاية خططت لها زوجتي، بدأت أنا وهي حديثاً مشاهدة مجموعة من الأفلام التي قامت هي سابقاً بتحديدها في قائمة مختصرة، ولأنها تهتم أكثر مني بالفلسفة وفهم ما وراء الأمور، اختارت القائمة كلها من هذا النوع من الأفلام الذي تدور كل أحداثه داخل لوكيشن "موقع تصوير" واحد لا يتغير، حيث يكمن الإبداع في الفيلم في المادة المكتوبة والحوار الدائر بين أبطال العمل والنقاشات السجالية بينهم مع القليل جداً من الإبداع البصري، وقد كان من حسن حظي أن أحد أفلام هذه القائمة كان فيلم the sunset limited أو "الغروب الجزئي" بالعربية. وهو فيلم قام بإخراجه الممثل الأمريكي تومي لي جونز، كما شارك بطولة الفيلم مع الممثل الأمريكي الآخر صامويل جاكسون، ومن المهم هنا أن أذكر لك أن هذا الفيلم هو واحد من الأفلام القليلة للغاية التي يمكنك أن تشاهد فيها صامويل جاكسون على مدار أكثر من 90 دقيقة دون أن يتلفظ بأي كلمة خارجة.
ولقد علمت بعد ذلك أن الفيلم مقتبس من نص مسرحي للكاتب كورماك مكارثي، أنتجت المسرحية في العام 2006 قبل أن يتحول هذا النص الإبداعي لفيلم روائي طويل في العام 2011، تدور أحداثه حول رجلين فقط "أبيض" و"أسود"، ورغم أنني حاولت كثيراً تخمين سبب تسمية البطلين باللونين الأبيض والأسود اللذين يشيران بالفعل للوني بشرتهما -ولكن بالتأكيد للأمر بُعد آخر- إلا أنني سأترك لك عزيزي القارئ الفرصة لمشاهدة الفيلم ومحاولة تخمين ما لم يوضحه النص، بنفسك.
تبدأ أحداث الفيلم بمحاولة الرجل الأبيض الانتحار برمي نفسه أمام أحد القطارات، لكن على بعد أمتار منه كان يقف الرجل الأسود الذي يعمل في مصحة نفسية لتأهيل هؤلاء العدميين الفاقدين للأمل في الحياة، ولذلك استطاع بسهولة تخمين إقدام الرجل الأبيض على الانتحار قبل أن يحتضنه ويمنعه من ذلك ويصحبه إلى منزله المتواضع، وحول طاولة خشبية صغيرة بدأ حوار فلسفي عميق على مدار قرابة الـ90 دقيقة بين الأبيض العدمي الذي اتضح مع بداية الفيلم أنه فيلسوف مهتم بالقراءة، حيث يفصح خلال الأحداث عن قراءته لما يقرب من 4 آلاف كتاب على مدار حياته، لكن ليس من ضمنها الكتاب المقدس، وبين الرجل الذي على الكرسي المقابل له. يجلس الرجل الأسود الفقير الذي لم يقرأ في حياته أي كتاب سوى الكتاب المقدس فقط، لكنه بالإضافة لذلك يملك عشرات السنوات من خبرة الحياة مع البسطاء والمهمشين وهؤلاء فاقدي الأمل في كل شيء داخل جدران أحد السجون حيث سجن يوماً ما بتهمة جنائية.
يتخذ الحوار بينهما سريعاً بُعداً دينياً، حيث يواجهنا الرجل الأبيض بعدميته وعدم إيمانه بوجود خالق، ما يحفز الرجل الأسود على استعادة ذكريات عمره الأليمة التي شعر خلالها بوجود الإله حوله، حتى في أحلك الأوقات التي عاشها وسردها أمام الرجل الأبيض، في محاولة منه لزرع الأمل في قلب الرجل الأبيض عبر الإيمان بالخالق الذي سيرعاه بالضرورة ويرشده للمعنى الذي يجهله، والهدف من الحياة، معتمداً بشكل كامل على قيم الحب والرحمة والعدل، التي يوزعها الإله على جميع خلقه مهما اختلفت الفوارق الثقافية والطبقية بينهم.
على مدار دقائق الفيلم التي مرت سريعة للغاية يحاول كل طرف من البطلين إقناع الآخر بوجهة نظره، سواء الأبيض العدمي الذي لا يؤمن بوجود الخالق أو الأسود الذي يؤمن بوجوده ويشعر به في كل شيء حوله.
ورغم النهاية المفتوحة للفيلم، حيث غادر الرجل الأبيض المنزل دون الإفصاح عن تغيير أفكاره، فإنه على مدار الفيلم أظهر الكثير من ردود الأفعال المتجاوبة مع قصص الأسود عن رؤيته لرحمة الإله في تجاربه الشخصية، ورغم إخلاص الرجل الأسود في المحاولة التي قام بها، فإنه أنهى مشاهد الفيلم باكياً معتقداً أنه لم يستطع مساعدة صديقه العدمي الذي لا يعرف عنه شيئاً سوى لون بشرته، وأنه قد قرأ 4 آلاف كتاب ليس من بينها الكتاب المقدس.
وفي النهاية التي عشتها أنا أيضاً كان أكثر ما جذبني هي تلك الفكرة التي جاءت في رأس كاتب مسرحية "الغروب الجزئي" لأول مرة، عندما دار في ذهنه أن الطريق إلى الله لا يحتاج إلى الكتب والفلسفة، بل يحتاج إلى القلب السليم فقط، وأن أحدهم بدون وعي أو ثقافة عالية قد يكون أكثر عمقاً في إدراكه لأبعاد الكون والخليقة من آخر قد قرأ آلاف الكتب.
وهنا أذكر اقتباساً للمفكر العبقري عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، حين قال: "لا يُمكن أن تَرى الأشياء بوُضوح إلا من خلال القلب؛ فكُلّ الأمور الجوهرية غير مرئيّة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.