عزيزي محمد الدرة

عدد القراءات
911
عربي بوست
تم النشر: 2021/09/30 الساعة 14:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/09/30 الساعة 14:22 بتوقيت غرينتش
الطفل محمد الدرة محتمياً خلف والده من رصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي 30 سبتمبر/أيلول 2000/ مواقع التواصل الاجتماعي

عزيزي محمد الدرة

ذات نهارٍ صيفيٍّ حار، مولّع، ساخن، سخونة الرصاصة لحظة خروجها من الماسورة إلى الهدف، وسخونة الدماء لحظة انفجارها من الجرح إلى المحيط، وسخونة اللحظة التي يرفع فيها الشهيد رأسه بينما يتكوّم جسمه فوق الأرض، كنتَ هناك، يدك في يد أبيك، تضحك، ترقص بقدميك رقصة الفرس الصغير، عائداً من سوق السيارات حيث لم تجدا السيارة التي أراد الوالدُ شراءها بدلاً من الصغيرة التي لديكم، تفكّر في الغداء الذي تعده أمّك آمال.

تتخيل الجلسة على الطبلية والأصناف التي تتراصّ فوقها، وفي بالك سيارة كبيرة مسرعةٌ -لا بد أن يشتريها أبوك في الأيام القادمة- تتخيل جلستك خلف المقود، تحركه يمنة ويسرة، وتتخيل أنك كبرتَ بالقدر الكافي لِأن تجرب القيادة، لكنكَ كنتَ صغيراً يا محمد، أصغر من أن تتحمل قيادة سيارة، وأصغر من أن تتحمّل السير تحت الشمس القائظة يومها، وأصغر للغاية من أن تتحمل رصاصةً تخترق بطنك الضئيل، الذي كان قبل ثوانٍ يفكر في طعام الغداء.

كبرنا منذ ذلك الحين، وتوقفت بك الحياة يا محمد حينها، خلف ذلك البرميل، بينما كنا نحن داخله، مجمّدين داخل الإسمنت، أصناماً لا نتحرك، نخشى أن نرفع رؤوسنا فيصيبها الشرر، وأنت وحدك، خلف جسد أبيك الذي فعّله كدرع لك، تحاولان أن تحتميا من الرصاص المصبوب، ولا شيء يمنع الرصاص من الوصول إليكما، لا فداء الوالد، ولا براءة أحلامك، ولا بساطة خيالاتك، عن سيارةٍ كبيرة تجمع العائلة، وتغدو بيتاً ثانياً لكم في الطلعات الأسبوعية.

لم يمنع الرصاصَ نظراتك، هل نظر القاتل في عينيك قبل أن يضغط على الزناد؟ استطاع المصور أن يرينا جانباً من المشهد، لكنني أتطلع إلى الجهة الأخرى، حيث يقفُ قاتلك، لأتفحص عينيه، قلبه -إن وُجد- فمه وثناياه، هل رآك قبل أن يصوّب؟ أم صوّبَ لأنه رآك؟

كبرنا يا محمد، وأنت كما أنت في ذاكرتنا، لم ينبت لك شاربٌ، ولم يقوَ لك ضلع، طفلاً صغيراً لا تعرف من أي وادٍ جاء الرصاص، وإلى أي وادٍ ذهب، كل ما تخبر به أباك أنك رجلٌ تستطيع التحمل، وكل ما يخبرنا به أباك أنك فارقتَ الحياة "مات الولد، مات الولد"، فأحييتنا يا ولد، ومنحتَنا مشهداً واحداً كالصعقة الكهربية في غرفة الإنعاش، كلما أوشكنا على المغادرة، جئتَ بها، فأعدتنا للبقاء، ووعدتنا بالخلود، هذه فلسطين يا جماعة، أنا فلسطين يا جماعة، أنتم فلسطين يا جماعة.

عزيزي محمد، ربما لو أخطأتْك الرصاصة في ذلك اليوم، لكبرت مثل أقرانك، وصار عمرك الآن 33 سنة، لك زوجة وأولاد، ربما أُسرتَ مرة أو مرتين، استشهد أحد أبنائك في قصف الاحتلال على القطاع، أصيبت زوجتك، أي شيء كان ليحدث لم يكن ليختلف كثيراً، فأنت فلسطيني، وما تلقاه متوقعٌ بالضرورة، ما دمتَ تحب هذه الأرض.

لكن من جانبٍ آخر، من الجيد أنك متّ قبل أن ترى مَن يضعون أيديهم في أيدي من أطلق عليك الرصاص، ومتّ قبل أن تراهم يرفعون جلابيبهم البيضاء وهم يقفزون بين برَك الدماء، ومتّ قبل أن تجد "إسرائيل" أمراً طبيعيا، أمراً واقعاً، يتعاملون معها على أنها إحدى دول المنطقة.

من الجيد أنك متّ يا محمد، قبل أن تكبر، فتكون أسيراً لدى قوات الأمن، وتلعن الاحتلال وأنت بقبضتهم ظانّاً أنك تلعنهم بالفعل، فتجدهم يضحكون، ويتحدثون بلكنةٍ فلسطينية لا تخطئها، وتكتشف فجأة أنك في أحد مقرات الأمن الوقائي للسلطة "الفلسطينية" يحققون معك بتهمة "معاداة إسرائيل"! من الجيد أنك متّ بالرصاص، لأنك لو عشت كنتَ ستموت بغيره، بأشياء أسخف منه بكثير.

المهم..

عزيزي محمد الدرة

اسمُك منذ ذلك الوقت صار علَماً، الصغار تلقوا الدرس أقوى من الكبار، عرفنا حينها ونحن في مثل عمرك أو أصغر منك، ذلك البلد القريب، الذي يحدث فيه لأطفالٍ مثلنا، ما لا نطيق حتى مشاهدته على التلفاز في ستين ثانية.

أتذكرني وأنا في عمر الثماني سنوات، مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية إذ تؤتي أكلها، وقد انفضّت سنواتها الثقيلة بشهدائها وأسراها، بانتصاراتها ولحظاتها المرة، بأيامها الطويلة ولياليها التي لا تنقضي، وقد أزاحت الغبار عن وجه القضية، وأغرقت تجارها في شبر ماء، وأنا طفل صغير، واقفٌ في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، مع قريبةٍ لي، أمسك ميكرفوناً أثقل من يدي، وبطولِ وجهي يومها، ألقي فيه قصيدة عبدالعزيز جويدة، عن طفلٍ فلسطيني، كان هذا الطفل أنت، أقول -وأنا يومها أخوك في الطفولة-: "سلاماتٍ سلامات.. لكل محمد مات.. وكل محمدٍ آت.. إلى المفجوعة الثكلى.. تقبّل أوجه القتلى.. لأن القدس غالية.. بذلنا روحنا الأغلى.. بذلنا الذات".

كنتَ حياً يا محمد! حيّاً إلى درجةٍ جعلتنا ونحن صغار نشكك في معنى الحياة، نهدمه، ثم تبنيه أنت من جديد، نفهم وندرك، أن الحياة هي تلك التي "بكرامةٍ" يعيشها أو يموتها الرجل على السواء، ليس المهم الكمّ الذي عشته من الأيام، وإنما الكيفية التي عشتَ بها أيامك مهما كانت قليلة أو كثيرة، وأن "إسرائيل" عبارة عن أكذوبة كبرى، عدوٌّ جاثٍ على إحدى ركبتيه، ينظر في منظار البندقية، ينتقي الهدف، يدع الطلقة تفلت من تحت إصبعه، لتصيب ولداً في عمر الزهور، تخطفه وتقطفه، لأن معركة المحتل ليست مع خصمٍ محدد، وإنما معركته -لأنه كذبةٌ- مع الحقيقة، مع أي أحدٍ -وإن كان طفلاً في الثانية عشرة- يثبت أنه زيف، يسير على الأرض وهو يشعر بأريحيةٍ أنها أرضه.

ما زالت فلسطين محتلة، لكن أمواج تحريرها تروح وتجيء، نحن أنفسنا نروح ونجيء، نتخاذل أحياناً ونسترجل أحياناً، لكن الشيء الكبير العالق في أذهاننا، بمرور الزمن، واختلاف الأعمار، وتباين المراحل، وتفاوت المسافات من القضية، هو ذلك الولد الصغير، المختبئ خلف أبيه المختبئ خلف برميل إسمنتي طول 91 سنتيمتراً، في شارع صلاح الدين، بقطاع غزة، يحاول أن يعيش، لكنه في الوقت ذاته يحاول -من حيث لا يدري- أن يموت موتةً تعقد صفقةً مع الأذهان، فتكون بدورها صورةً من صور الحياة، أو لعلها المرجع الأبرز لمعنى الحياة الكبير.

عزيزي محمد الدرة

غبتَ عن بيتك لكنك حضرت في بيوتنا، وغبتَ عن عيني أمك إلى عيوننا بلا استثناء، ولم تذهب في اليوم التالي إلى المدرسة، لكننا حين ذهبنا، هتفنا "عاش الولد، عاش الولد"، وحجزنا لك في كل صفٍّ مقعداً، وفي كل إذاعةٍ كلمة، وفي كل مرحلةٍ من مراحل العمر إيماناً خالصاً بك لا يتغير، وفي كل ثورةٍ لافتة وكلمة، وفي كل ميدانٍ تمثالاً ورسمة، وفي كل عامٍ يوماً، آخر أيام سبتمبر، هو عيدك، عيد ميلادك المجيد، الذي بدأتَ فيه حيواتنا، بينما انتهت فيه أيامك لدى السجل المدني الفلسطيني، وحدَه، ولم تنتهِ أبداً، في سجلّاتنا، التي مكتوبٌ على غلافاتها جميعاً "السجل المدنيّ للقضية الفلسطينية"، وفي كل صفحةٍ اسمٌ لأحد أبنائها الذين بتاريخ ميلادٍ لا يقابله تاريخ وفاة، وأنت أنت وحدك، لك بابٌ كبير، بصفحاتٍ كثيرة، اسمه "الشهيد محمد جمال محمد الدرة".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد