بإعادة صياغة أطروحة المتخصص الفرنسي في العلوم السياسية ريمي ليفو، التي عنونها بـ"الفلاح المغربي المدافع عن العرش"، أستطيع أن أؤكد، وبدون غموض، أن الفلاح "الأمازيغي" أصبح منذ الانتخابات الأخيرة، 9 سبتمبر/أيلول، هو المدافع الرئيسي عن النظام الملكي المغربي. والسؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا؟
بخلاف نظرية ريمي ليفو، المستشار السابق لوزارة الداخلية المغربية، ضمن أطروحته الشهيرة، التي تؤكد أن الملكية تعتمد على وجهاء المناطق القروية من أجل إحباط سلطة البرجوازية الحضرية والبيروقراطية في المدن، وذلك من أجل ضمان الحفاظ على الجمود السياسي.
لكن هذه المرة يحق لنا تحية القصر لأنه راهن على شخصية "أمازيغية" برجوازية كبيرة، لديها ما هو استثنائي، ما أهله للتمكن من النجاح في حشد "الفلاحين" وسكان الأرياف من أجل الذهاب إلى صناديق الاقتراع، الأمر الذي أدى إلى زيادة نسبة المشاركة، وقبل كل شيء تمكن من إسقاط حزب العدالة والتنمية الذي مكث لمدة عقد من الزمن داخل دواليب الحكومة المغربية.
التصويت الإثني وانهيار الإخوان المسلمين
الأمر المثير للدهشة هو أن جل الصحفيين وعلماء السياسة والباحثين، سواء كانوا مغاربة، أو فرنسيين، أو إسبانيين وأجانب آخرين قدموا أسباباً مختلفة لمحاولة تفسير انهيار شعبية "الإخوان المسلمين" في المغرب، واستثنوا جميعاً العامل الحاسم أو قللوا من شأنه ولم يأخذوه محمل الجد، ذلك أنهم تجاهلوا في تحليلاتهم ما يسمى "التصويت الإثني"، حيث كان حشد أصوات المواطنين الناطقين بالأمازيغية في المناطق النائية أمراً حاسماً وعاملاً كبيراً في هزيمة "العدالة والتنمية"، كما كان أيضاً هذا "التصويت الإثني" حاسماً في إجهاض آمال حزب الأصالة والمعاصرة، عن طريق إطلاق دعاية المقاطعة داخل المناطق الجبلية أثناء الاستحقاقات الانتخابية ما قبل الأخيرة، ما أدى آنذاك إلى حرمانه من المنافسة بجدية على رئاسة الحكومة.
اعتبر الباحث المغربي مصطفى السلهامي من خلال أطروحته التي صاغها حول السيناريو الأمثل للائتلاف الحكومي المستقبلي، أن السيد عزيز أخنوش، رئيس الحزب المتفوق، التجمع الوطني للأحرار، والرئيس الجديد للحكومة عليه أن يدمج حزب الحركة الشعبية في حكومته "حتى لا يشعر العالم الأمازيغي بالاستبعاد".
للأسف، الباحث السياسي السيد السلهامي يتجاهل أن الزمن قد تغير بشكل كبير، وأن حزب الحركة الشعبية لم يعد المتحدث باسم المغاربة الناطقين بالأمازيغية، منذ ظهور الحركة الثقافية الأمازيغية بقوة في عقد التسعينيات من القرن الماضي، بل على العكس من ذلك، هذا الحزب الذي تم إنشاؤه سنة 1958 لإحباط هيمنة حزب الاستقلال خيّب آمال المغاربة الأمازيغ، لأنه خلال رئاسة الحكومة الأولى للدكتور سعد الدين العثماني شغل وزراؤه المناصب الوزارية الرئيسية الثلاثة، المطلوب منها العمل على النهوض باللغة والثقافة الأمازيغيتين، وهي وزارات التربية الوطنية والثقافة والاتصال، إلا أنه لم يقم بأي تغيير في أي مجال من هذه المجالات، سوى الحفاظ على موقفه القومي العربي ومعارضة تغيير اسم وكالة الأنباء الرسمية من "المغرب العربي" إلى "المغرب الكبير"، الذي يتماشى مع ديباجة ومضمون دستور يوليو/تموز 2011، كما طالب بذلك النائب البرلماني لحزب التجمع الوطني للأحرار السيد عبد الله غازي.
اعتاد غالبية سكان "العالم الأمازيغي" أو بالأحرى المناطق الخمس الناطقة بالأمازيغية (الريف، الأطلس المتوسط، الأطلس الكبير، سوس، والجنوب الشرقي أو أسامر)، على مقاطعة الانتخابات، ومعهم حزب الأصالة والمعاصرة، ولكن وبفضل الاستراتيجيات الطموحة وحملات الاتصال عبر شبكات التواصل الاجتماعي تم تغيير هذا السلوك، وأصبح لدى تلك المناطق حافز المشاركة وذهبت بشكل جماعي إلى مراكز الاقتراع، لقد صوتت لتوجهات سياسية مختلفة، لكنها راهنت بنسبة مهمة وكبيرة على حزب التجمع الوطني للأحرار، الحزب الذي كان أكثر انصاتاً واهتماماً لهم، والذي عرف كيف يدمج بعض مطالب الحركة الأمازيغية في برنامجه الانتخابي.
المفارقة الغريبة هي أن حزب العدالة والتنمية خلال انتخابات 2016، كان قد فاز في منطقة سوس ذات الأغلبية الأمازيغية بأكبر عدد من الأصوات، ما يقارب نسبة 22%، ومن بعده حزب الأصالة والمعاصرة بنسبة 20%، ثم حزب التجمع الوطني للأحرار بنسبة 15.5%، وهو ما لم يتكرر في الانتخابات الأخيرة، لكن خلال هذه الاستحقاقات فإن المواطنين الناطقين بالأمازيغية قاموا بمعاقبة حزب العدالة والتنمية، بإعادته إلى المركز الثامن من تصنيف الانتخابات الأخيرة، حيث حصلوا على 18 مقعداً فقط بعد أن تمكن حزب التجمع الوطني للأحرار من حجز 196 مقعداً. وبحسب معطيات إحصائية نشرتها ولاية أكادير حول نتائج هذه الانتخابات التشريعية على مستوى عمالة أكادير إداوتنان على سبيل المثال، فقد احتل حزب التجمع الوطني للأحرار الصدارة بأكثر من 50.832 صوتاً مقابل 5386 صوتاً لحزب العدالة والتنمية فقط، أي تفوق عليه الأحرار بعشرة أضعاف.
كذلك الأمر في منطقة أسامر، التي رغم أنها تصوت لصالح الحركة الشعبية، فإنها واجهت منافسة شديدة من طرف حزب التجمع الوطني للأحرار.
التغيير يأتي من الجبال
من ناحية أخرى، فإن التصويت على المستوى الوطني يختلف بشكل ملحوظ من داخل المناطق القروية عن التصويت بالمناطق الحضرية، حيث صوتت كتل المجال الحضري سابقاً بأغلبية ساحقة لصالح حزب العدالة والتنمية، لكن استراتيجية حزب العدالة والتنمية المتمثلة في رهان الامتناع عن التصويت لتأمين إمكانية ولاية ثالثة، لم تتم وفق ما تم التخطيط له على الإطلاق، ولم تعطِ النتائج المرجوة، بل على العكس من ذلك، ساهمت إلى حد كبير في سقوطه المهول، على الرغم من حشده لبعض المؤثرين للقيام بحملات إعلامية، سعى من خلالها العدالة والتنمية لتشويه عزيز أخنوش، كما لم يستطع تعبئة سكان المناطق الحضرية بسبب سياساته الاقتصادية، التي أضرت إلى حد كبير بالقدرة الشرائية للطبقة الوسطى، وزادت من إفقار الطبقات الفقيرة، ودمرت التجارة بسبب السماح بإغراق السوق الوطنية بالمنتجات والمتاجر الأجنبية، بالإضافة إلى عدم اتخاذ وزرائهم أية تدابير فعالة لوقف الضرر والتأثير السلبي على المستوى الاجتماعي والاقتصادي لجائحة كورونا.
لطالما آمنت ودافعت عن فكرة هبوب رياح التغيير الديمقراطي في المغرب من الجبال، أي من تلك المناطق المهمشة والناطقة بالأمازيغية، مثل المطالبة بالاستقلال الذي انتزع من الاستعمارَيْن الفرنسي والإسباني، بمجرد انخراط الشباب الأمازيغي في جيش التحرير الوطني المغربي سنة 1955.
وقد أكدت سابقاً في مقالي "الملكية المغربية والأمازيغ" على أن "سياسة المخزن القديمة التي لا تزال تعتمد على النخب السياسية التقليدية الرجعية، المنتمية للعصور الوسطى، محكوم عليها بالفشل بشكل قاطع، ومصيرها مراكمة المزيد من الإخفاقات أمام طموح الشباب الأمازيغي، الذين ينتظرهم تحدٍّ كبير إن هم أرادوا أن يعيشوا في دولة حديثة ومتقدمة، ألا وهو الانخراط في تنظيمات سياسية يمكنهم عبرها المساهمة أكثر من أجل تغيير مصير بلدهم، في أفق تغيير سلوك الأعيان التقليدية المبنية على الزبونية، لأن رياح الدمقرطة في تامازغا تأتي دائماً من جبالها، وقد حان الوقت لإبعاد الرعايا التقليديين القدامى، الأوفياء لـ"الملكية المطلقة" عن المشهد السياسي من قبل المواطنين الشباب المدافعين عن سيادة دولة الحق والقانون".
الأمازيغ البراغماتيين
قبل أربعة أشهر من وفاة الملك الراحل الحسن الثاني، صرّح الصحفي الإسباني بيدرو كاناليس في صحيفة EL PAIS ليوم 14 مارس/آذار 1999، عقب ندوة دولية حول موضوع الإسلام والثقافة الأمازيغية، التي نظمتها مؤسسة ديفيد مونتغمري هارت، والتي أترأسها، في مدينة غرناطة، صرح بأن "هذه هي المرة الأولى التي يقدم فيها التياران السياسي والاجتماعي/الثقافي المغربيان مواقفهما في نقاش عمومي. ومن منظور التحول الديمقراطي الذي ينبغي إطلاقه في المغرب بعد خلافة العرش، وتضافر جهود هذه القوى يمكن أن يعطي الاستقرار للمستقبل السياسي لهذا البلد المغاربي".
وكان هذا التصريح بمثابة دق ناقوس الإنذار في القصر، لأنه بالفعل اتحاد هذه القوى الحركية إلى جانب شباب حركات اليسار لاحقاً، والذين بادروا بإطلاق حركة 20 فبراير 2011، وهي حركة ثورية أدت إلى الإصلاح الدستوري والاعتراف باللغة الأمازيغية لغة رسمية، لكنها سمحت بصعود الإسلاميين إلى السلطة، وتولوا رئاسة الحكومة، ومنذ ذلك الحين، وهم يعملون كل ما في وسعهم لمنع ملف الأمازيغية من التقدم، بل أكثر من ذلك فهُم جمّدوا كل مطالب وحقوق الأمازيغ.
في الحقيقة، لطالما اعتبر قادة حزب العدالة والتنمية، وكذلك قادة حزب الأصالة والمعاصرة وحزب الاتحاد الاشتراكي وأحزاب اليسار، أن الناخبين الناطقين بالأمازيغية أقرب لمرتزقة السياسة، لأنهم أشخاص يدافعون عن أيديولوجيات ومواقف هذه الأحزاب، على حساب مصالحهم الخاصة وحقوقهم المشروعة.
لكن، كما أكد صديقي وزميلي وأستاذي، عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي الراحل ديفيد هارت، فإن الريفيين بل وعموم الأمازيغ هم أناس براغماتيون، يمكن أن يخدعهم الإسلاميون للمرة الأولى "بأصلهم التجاري الذي يعتمد على الدين"، وبخطابهم الأخلاقي مرة ثانية، لكن ليس للمرة الثالثة! لأنه يأتي وقت يدرك فيه هؤلاء الشباب والفلاحون الأمازيغ حقاً هويتهم وحقوقهم وقضاياهم والرهانات الانتخابية، وبالتالي فإن هؤلاء الآلاف من الشباب الذين ينحدرون من هذه المناطق المهجورة، والذين تعلموا في جامعات مختلفة، وعلى رأسها جامعات وجدة، أكادير، ورزازات، الراشيدية، مكناس، مراكش وبني ملال، وكذا حضورهم التواصلي على شبكات التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك، تمكنوا من إيقاظ الوعي الجماعي والسياسي لـ"الفلاحين الأمازيغ".
ما نتج عنه مشاركة واعية وفاعلة في التغيير السياسي والسلمي للحكومة، على الرغم من الحظر المفروض على تشكيل تنظيمات وأحزاب سياسية ذات نزعة "القومية الأمازيغية"، وبهذا انخرط المزارعون والتجار والشباب المنتمون إلى "العالم الأمازيغي" بطريقة براغماتية، وعاقبوا من خلالها حزب العدالة والتنمية وصوتوا لصالح الأحزاب العلمانية والليبرالية، وبالخصوص الحزب الذي أتقن الإنصات لمطالبهم.
في الختام، يمكننا الجزم بأن المواطنين الناطقين بالأمازيغية، في غالبيتهم العظمى اختاروا بشكل حازم زعيماً أمازيغياً، هو أمغار عزيز أخنوش، ومنحوه ثقتهم، كونه يتمتع -بالإضافة إلى نبوغه السياسي- بشرعية تاريخية سياسية أكبر، لأن والده كان من رجالات المقاومة المسلحة، وناضل من أجل استقلال المغرب.
وفي هذا الصدد قال: "أنا فخور بكوني أمازيغياً، فخور بالانتماء إلى هذا المجتمع المجتهد الذي أنتج العديد من رواد عالم الأعمال والتجارة في المغرب، رغم أنه حيث يعيش الأمازيغ، غالباً ما تكون أكثر المناطق صعوبة. هنا من حيث أتيت، من تافراوت، بإقليم تزنيت، بجهة سوس ماسة، حيث توجد صخور، ومناظر طبيعية جميلة للغاية، لكن مصادر الدخل نادرة، إن قدرة أهل هذه المناطق على العمل هي التي تمكنهم من التأقلم مع الوضع.
إن دستور 2011 وبإرادة من صاحب الجلالة يوفر إجابات حقيقية لما يسمى بالقضية الأمازيغية، لكن لسوء الحظ فإن القرارات التنفيذية مازالت متأخرة جداً، علينا أن نسرع بإنزالها". ودعونا نأمل أن تنجح حكومته في ذلك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.