لَطالما شكَّلت إفريقيا محوراً أساسياً في السياسات التوسعية لمختلف الدول والإمبراطوريات، بداية مع الاستعمار التقليدي وصولاً إلى الاستعمار الحديث.
وحالياً تعد حلبة صراع محتدمة بين مختلف القوى العالمية، حيث تعمل روسيا والصين على وجه الخصوص على تكثيف النشاط الاقتصادي والعسكري في القارة، لتأمين الوصول إلى الموارد الطبيعية والأسواق سريعة النمو، بالإضافة لتشكيل تحالفات سياسية.
ولكن تصاعَدَ النقاش في الأوساط العلمية والأكاديمية في الفترة الأخيرة حول ظهور طرفين جديدين في القارة، وهما إيران والكيان الصهيوني، حيث طُرحت فرضية امتداد الصراع بين إيران والكيان الصهيوني إلى إفريقيا، وفي الحقيقة إن هذا الخلاف ليس بالجديد، بل تعود بدايته للثورة الإيرانية في عام 1979. حين تبنت جمهورية إيران الإسلامية موقفاً قوياً مناهضاً للكيان الصهيوني، وهذا الأخير بدوره يرى في إيران تهديداً أمنياً وأن قدرتها على بناء أسلحة نووية يعد تهديداً وجودياً له.
ويُطلق على هذا الصراع حرب الظل، حيث تعد منطقة الشرق الأوسط هي الساحة الأولى التي يبرز فيها هذا الصراع، خاصة في كل من سوريا ولبنان.
في لبنان يرى المحللون أن هذه الدولة تمثل الجبهة الأقدم في المعركة، وفي الوقت نفسه الصدام فيها غير مباشر، حيث تَشكَّل حزب الله في لبنان عام 1982 كرد فعل على احتلال الكيان لجنوب البلاد، وكانت حركتهم مستوحاة من الثورة في إيران، ذات الأغلبية الشيعية، وأصبح حزب الله إلى حدٍّ ما قوة بالوكالة عن الحرس الثوري الإيراني؛ ما يجعل لبنان الساحة الأولى والأقدم، التي لا تزال حتى الآن تشهد أحداثاً عديدة، من بينها عندما تبادل الطرفان إطلاق النار في أغسطس/آب، حيث أطلق حزب الله وابلاً من الصواريخ تجاه قوات الكيان، وقابلته بدورها بقصف مدفعي على جنوب لبنان.
في سوريا يعمل الكيان الصهيوني على التصدي لمواجهة النفوذ الإيراني في سوريا، حيث منذ اندلاع الحرب في سوريا قبل عقد من الزمان وسّعت إيران وجودَها العسكري في البلاد، لدعم حليفها بشار الأسد، وشنّ الكيان حملة علنية بشكل متزايد في سوريا ضد أهداف مرتبطة بإيران.
الوجود الإيراني في إفريقيا
في الحقيقة فكرة التمدد الإيراني نحو إفريقيا ليست بالجديدة، بل ظهرت حتى قبل عام 1979، حيث سعت إيران لتوسيع حضورها الإقليمي حول العالم، وعملت على عبور المحيط الهندي لتثبّت أقدامها على سواحل شرق القارة الإفريقية، والانطلاق منها للعمق الإفريقي لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية. إفريقيا قارة غنية وموقعها استراتيجي، بالإضافة إلى أنها سوق خصب ومناسب.
فاتبعت استراتيجيتين مختلفتين؛ الأولى كانت القوة الناعمة وعقد الشراكات الاقتصادية، مستغلةً في ذلك العجز الهيكلي. والثانية تزعم الكثير من التقارير ووسائل الاعلام أن إيران عملت على زرع الفوضى لتحقيق مصالحها بطريقة غير مباشرة، عن طريق تحويل إفريقيا إلى ساحة حرب ضد أعداء إيران الإقليميين والدوليين، دون أن تتدخل بشكل مباشر، وقد استغلت في هذا الفوضى وانعدام الأمن والصراعات الأهلية؛ ما أدى إلى سهولة الاختراقات في دول القارة.
الكيان الصهيوني في إفريقيا
بدوره يضع الكيان الصهيوني إفريقيا هدفاً استراتيجياً، وهذا لما تمثِّله هذه القارة من ثقل سياسي، ومورد اقتصادي، وسوق مفتوح، وأيضاً تعد هشاشة أوضاعها وسهولة التسرُّب إلى مفاصلها إضافة محفزة.
في الحقيقة يعد هذا الاهتمام جديداً لأن قادة الكيان الأوائل لم يهتموا بإفريقيا كثيراً، لأن حاجتهم المركزية كانت تدور حول إثبات وجودهم ونيل الاعتراف؛ ما جعلهم يركزون على الدول الغربية لأنهم الحلقة الأقوى والأهم.
يستهدف الكيان عدة مجالات في حملته التوسعية هذه، ومن أهمها:
المجال السياسي والدبلوماسي: وهذا يكون بداية عن طريق العمل على تطبيع العلاقات والحصول على الاعتراف.
المجال الاقتصادي: فالقارة الإفريقية تمتلك قدرات هائلة وإمكانيات كبيرة من الموارد غير المستغلة.
المجال العسكري والاستخباراتي: وهذا عن طريق زيادة مبيعات السلاح، أو التدريب الأمني للجيوش الإفريقية، أو بيع التقنيات وتكنولوجيا التجسس، وهذا ما شهدناه في الفترة الأخيرة مع قضية بيغاسوس التي أحدثت ضجة عالمية.
سيناريو الصراع في إفريقيا
إن التقارير التي تدرس وتحلل احتمالية وقوع الصراع بين الكيان الصهيوني وإيران في إفريقيا ليست جديدة، حيث نشرت في سنوات ماضية "الإيكونومست" في تقرير لها عن الخلاف بين كل من الكيان وإيران واحتدام المنافسة على النفوذ بينهما في القارة الإفريقية، وأشارت إلى النفوذ الإيراني ومحاولتها التوغل عن طريق الاقتصاد وجذب الدول الإفريقية التي تعاني اقتصادياً، في حين في تلك الفترة كان لا يزال الكيان يواجه صعوبة في التغلغل وكان يستعين بالولايات المتحدة.
بالإضافة إلى الصراع على المياه في إفريقيا، حيث اتخذ الكيان كافة الإجراءات لتعزيز وجوده الأمني في عدة دول، مثل إثيوبيا، التي تعد دولة أساسية من الناحية الاستراتيجية، لموقعها المطلِّ على مسارات إبحار السفن إلى ميناء إيلات وقناة السويس.
بالمقابل إيران أنشأت حديقتها الخلفية في السودان، وعينها على البحر الأحمر الممتد جنوباً من مضيق باب المندب الذي يُعد من أهم الممرات المائية العالمية، لأنّه يصل البحر الأحمر بخليج عدن وبحر العرب، وصولاً شمالاً إلى قناة السويس.
على الرغم من وجود هذا الصراع غير المعلن، فإنه يسعى كلاهما إلى تجنب الاشتباكات الواضحة والمباشرة، التي من شأنها أن تخاطر بالتصعيد إلى حرب شاملة، مفضلين بدلاً من ذلك التصرف بإنكار معقول، حيث تشمل أهداف الكيان إحباط برنامج إيران النووي، واحتواء نفوذها الأوسع في المنطقة، وتعمل إيران على تقويض تمدد وتوسع الكيان الصهيوني ومحاصرته، لكي لا ينتقل إلى مناطق نفوذ جديدة.
دول إفريقيا ترفض وجود الكيان الصهيوني
في الحقيقة لم يكن مرحباً بالكيان بشكل رسمي في إفريقيا، خاصة مع الأحداث الأخيرة، حين انضم للاتحاد الإفريقي عضواً مراقباً ظهرت مبادرات وحملات انخرطت فيها عدة دول لطرد الكيان من الاتحاد.
يمثل وجود الكيان في إفريقيا خطراً كبيراً على مختلف الدول، ومن بينها مصر، حيث صرح الكثير من المحللين بأن وجود الكيان في القرن الإفريقي (المدخل الجنوبي للبحر الأحمر) يعد تهديداً خطيراً للمصالح المصرية، خاصة بعد توقيع تل أبيب وأبوظبي، العام الماضي، اتفاقاً يستهدف نقل النفط عبر خط أنابيب يربط البحرين الأحمر والمتوسط، إلى أوروبا، والذي يمر معظمه حالياً عبر قناة السويس.
وحذَّر الأكاديمي والمحلل السياسي حسن نافعة، من قرار قبول الكيان عضواً مراقباً في الاتحاد الإفريقي، قائلاً مجرد صدور القرار يعكس حجم التفكك العربي وضآلة الثقل العربي في المنظمة، كما يعكس تدهور العلاقات العربية الإفريقية وتمدد النفوذ الإسرائيلي في القارة.
وأكدت الجزائر رفضها لهذا التوغل، وصدر بيان رسمي من وزارة الخارجية، قالت فيه إنّ "القرار الأخير لرئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي بشأن قبول مُراقب جديد، والذي يدخل ضمن صلاحياته الإدارية، ليس من شأنه أن يؤثّر في الدعم الثابت والفعّال للمنظمة القاريّة تجاه القضية الفلسطينية العادلة، والتزامها تجسيد الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقّه في إقامة دولته المُستقلة وعاصمتها القدس المُحتلة".
تداعيات الوجود الإيراني في قارة إفريقيا
من الممكن أن نعتبر التواجد الإيراني في إفريقيا بشكل عام وضعاً طبيعياً، ولأن إيران حالياً تتبع أسلوب القوة الناعمة تجاه دول إفريقيا، ولا تزال تعمل على إخفاء تواجدها، إلا أن مصلحتها مستقبلاً من الممكن أن تفرض عليها اتباع استراتيجية تتعارض مع مصالح هذه الدول، ورغم محاولاتها بناء علاقات، مع أن الأنظمة كما هي، فإن استراتيجيتها الفعلية ستكون عبارة عن تكريس كل قوتها لتحقيق أهدافها، حتى لو تعارضت مع مصالح هذه الأنظمة.
فتصدير السلاح لإفريقيا التي تموج بالصراعات من أهداف أغلب الدول، ومن بينها إيران، حيث في دراسة مسحية لمدى انتشار الأسلحة الإيرانية في إفريقيا في الفترة من 2006 وحتى 2012، وشملت دولاً شهدت حروباً أهلية أو اضطرابات مسلحة طويلة الأمد في إفريقيا، خلصت الدراسة إلى وجود 14 حالة مسلحة في هذه البلدان التسعة، أربعة منها فقط وصلت بها الأسلحة للحكومات (غينيا، كوت ديفوار وكينيا والسودان)، أما الحالات العشر الأخرى فوصلت للجماعات الأخرى المسلحة.
بالإضافة إلى هدف آخر يتمثل في استمرار الحصول على اليورانيوم، حيث تهتم إيران بالحصول على اليورانيوم، خاصة من الدول الإفريقية، في ظل مخططها لبناء 16 مفاعلاً نووياً لإنتاج الطاقة، واستخدامها لأغراض مدنية. ونظراً لما قد يترتب على ذلك من إمكانية نفاد مخزونها خلال فترة وجيزة، لذا بات من الأهمية بمكان الاهتمام بالدول الإفريقية المنتجة له، واعتبار العلاقة معها.
في الختام يمكننا القول إن القارة الإفريقية غنية بثروات طبيعية، وتقع في موقع جيو-استراتيجي حساس، وهو ما جعلها محل أطماع لكافة الدول العظمى وحتى الدول التي تسير في طور التقدم أصبحت تطمح لتجد موطئ قدم في هذه القارة، ولكن الفوضى السياسية والنزاعات المحتدمة فيها جعلتها منطقة ضعيفة سياسياً وعسكرياً، وبالتالي أصبح بناء علاقات متكافئة بينها وبين الدول الكبرى مستحيلاً.
وواقع العلاقات الدولية مبني على أن بناء علاقات متكافئة بين الدول من الشروط الأساسية للحفاظ على المصلحة القومية، وضمان مصلحة الشعوب، لأن التعاون الاقتصادي وحتى العسكري ضروري، لأنه يساهم في انتقال الخبرات بين الدول، ويساهم حتى في زيادة دخل الدولة مستقبلاً، بالتالي يكون دفعة لاقتصادها.
لهذا فإن الوجود غير الصحي والاستغلالي لأي دولة في القارة الإفريقية مهما كانت خلفيتها التاريخية أو الثقافية أو الدينية ما هو إلا انتهاك وتدمير لطاقات هذه القارة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.