الثنائي رئيسي- عبداللهيان الذي حل بدل روحاني- ظريف هُما من تيار سياسي محافظ، خالف منذ اللحظة الأولی الاتفاق النووي الموقَّع عام 2015، ورأيا فيه عدم مراعاة مصالح البلاد. الواقع الجديد أن الثنائي الذي تولّی منصب رئيس الجمهورية، ووزير الخارجية منذ أغسطس/آب، يتخذان سياسة محددة مسبقاً في عدم استعجال استئناف مفاوضات فيينا، الرامية لتفعيل الصفقة التي غادرتها واشنطن من جانب واحد عام 2018.
بعد الانقطاع الذي أثارته إدارة ترامب، وبعد إجراء 6 جولات من المحادثات في عهد الرئيس روحاني المعتدل، وافقت واشنطن علی رفع معظم عقوبات عهد ترامب وليس كلها، ولكن لم تُثمر الجهود عن عودة أمريكا وإيران إلی الاتفاقية وحل الخلافات بينهما في الجولة الأخيرة من المفاوضات في فيينا، في يونيو/حزيران.
الوقت في صالحها، هكذا تعتقد حكومة المحافظين الجديدة، لذلك يحمل هذا التباطؤ والتريّث في المباشرة بالمحادثات رسائلَ داخلية وخارجية.
الاتفاق ليس أولویة الدولة
بينما يطالب العالم طهران لحظة بعد لحظة باستئناف المحادثات حتی الوصول إلی حل يضع حداً للنووي الإيراني ويرفع عنها العقوبات، يتجول الرئيس الإيراني في المحافظات الإيرانية ويعقد فيها اجتماعات لحلحلة مشاكلها. فالتركيز علی ضبط الأمور محلياً أولی لدی إبراهيم رئيسي من خطة العمل المشتركة الشاملة، وكان رئيسي وتياره ينقد ويحمل حكومة روحاني إخفاقاته في السياسات الاقتصادية، وربط معيشة المواطن بالمفاوضات النووية، كما أن حكومته تعاني من عدم كفاءة المسؤولين، وهو ما خلّف مشاكل؛ كالركود الاقتصادي والفساد الإداري والتدهور البيئي وعدم احتواء جائحة كورونا.
الجار أولاً والشرق
السياسة الجديدة التي تحكم طهران للسنوات الأربع القادمة يصفها وزير الخارجية أمير عبداللهيان بأنها آسيوية، تبدأ من الجيران، في مقدمتهم العرب، ثم إلی الشرق المتمثل بدول منظمة شنغهاي، التي أصبحت طهران عضواً فيها، وقد عُدّ ذلك انتصاراً دبلوماسياً للحكومة الجديدة داخل إيران، حيث توعدت الشعب بانفتاح اقتصادي ملموس خلال هذا الانضمام وخارج دائرة الاتفاق النووي.
ومن زاوية أخری يمثل الحوار الإقليمي لإيجاد بنية أمنية مستدامة لمنطقة الخليج عبر مفاوضات السعودية الإيرانية التي جرت في بغداد، تأكيداً لطهران علی عدم ضرورة إلحاق ملف أمن المنطقة إلی المفاوضات النووية، حيث خطتها التي أکدت عليها من قبل؛ حوار إقليمي بعيداً عن الإملاءات الأمريكية.
كما أن انسحاب الأمريكان من أفغانستان وتزايد الانتقادات التي طالت إدارة بايدن في الملف الأفغاني في إيجاد الفوضی، أخرج طهران من التطويق الأمريكي عام 2003، وسمح لها ببناء مزيد من النفوذ، ووهبها بالفعل شعوراً بأنها ميزة في ميزان قوی المنطقة، وأنها في وضع جيد، هكذا تتصور القيادة الإيرانية.
الاتجاه الجديد نحو التطوير النووي
الأصوات تتعالی نحو نشاط وكالة الطاقة الذرية الإيرانية غير المعلن عنه، فالتوجه في سياسة طهران اليوم يبرز في إتاحة الفرصة لتنمية البرنامج النووي، وبناء مخزونات أكبر من اليورانيوم عالي التخصيب، أبعد مما كانت عليه طهران قبل الاتفاق المبرم عام 2015، يحدث هذا قبيل العودة للمفاوضات، لعله يصبح مكسباً جديداً بيد المفاوضين الجدد، الذي لم يُعينوا بعد، بغية انتزاع تنازلات أكبر من الغرب.
صفقة بشرط الأفعال
لا تثق حكومة المحافظين كما كانت تثق حكومة المعتدلين بالأقوال، فالأخيرة كانت تنظر بإيجابية إلی الدبلوماسية، وأنها تجني الاستقرار السياسي والاقتصادي للبلاد، حتی لو تأخرت الأفعال، ولكن رئيسي وعبداللهيان يبحثان عن محادثات نووية تكون موجهة نحو النتائج فقط. وبهذا التأخير في عودتها إلی طاولة الحوار تُوصل رسالتها، وهي إن عدتم بأفعالكم عدنا، مذكرين بفشل إدارة ترامب في فرض عقوبات إلی أقصى حد، ومع ذلك نجا الاقتصاد الإيراني من الانهيار، وهو نحو التعافي قليلاً الآن.
ما من شك في أن من يتولّی قرار طهران اليوم هو الرافض لسياسة سلفه وخصمه السياسي السابق، الذي وقّع الاتفاق واعتبره فوزاً ثمیناً له، فما تفعله حكومة رئيسي في أشهرها الأولی هو إثبات قدرتها علی تحریك المياه الراكدة للاقتصاد الإيراني، وتأمين معيشة المواطن، دون الاتكاء التام علی التوافق مع القوی العالمية، ومن ناحية ثانية تعمل علی أن تعكس صورة المفاوض القادر علی تأمين أكثر لمصالح إيران، دون تقديم تنازلات نووية أكثر.
تعرف إيران سياستها جيداً في ظل وصول المحافظين لسدة الحكم، لذا لا تبحث عن التقاط الصور وكثرة الزيارات وجولات المحادثة، فلقد أخرت الحكومة بالفعل إنقاذ الصفقة بينها وبين القوى العالمية، التي يمكن أن تكون محادثات فيينا آخر فرصة لإحيائها، ولكن سوف تعود إلی الطاولة، والأرجح أن تبدأ من نقطة توقفها، وستتفاوض من أجل العودة إلی ما قبل 2018، وإمكان التحقق من تخفيف العقوبات، كما تسعی للحصول علی ضمانات لعدم رجوع واشنطن من الصفقة مرة أخری، أو نسفها من خلال فرض عقوبات جديدة، وهذه نتيجة عدم ثقة طهران بالأقوال الأمريكية.
جهاز السياسة الخارجية ووزيره الجديد يبحث عن رؤية الفوائد الاقتصادية التي يهدف الاتفاق إلى توفيرها، بدل وعود التجارة والاستثمار، وهي لا تُثمر أصلاً، ولكن التنازلات اللازمة لإنقاذ الصفقة من حالة الركود لا تبدو أمراً سهلاً بالنسبة لطهران ولا حتی لواشنطن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.