المنظومة السياسية في أي نظام حاكم هي المحرك الرئيسُ لِمَا عداها من منظومات رسمية داخل المجتمع، ولا سيَّما في الدول النامية، التي تقف منظوماتها عاجزة أمام النظام السياسي الحاكم، مقدِّمة له السمع والطاعة العمياء، وتعتبر المنظومة الأمنية جزءاً لا يتجزأ من النظام السياسي؛ فهي مرآة صادقة له، تنطق بلسان حاله، وتبوح -رغماً عنها- بأسراره.
والنظام السياسي الناجح لا يخشى على نفسه، وبالتالي يضع أجهزته الأمنية في موضعها الصحيح؛ وهو توفير الأمن لأفراد وجماعات المجتمع، وحماية الممتلكات العامة والخاصة، وذلك بخلاف الأنطمة الفاشلة التي تخشى على نفسها من السقوط، فإنها تقوم بتسخير أجهزتها الأمنية لخدمتها، من خلال التجسُّس على معارضيها، واتخاذ إجراءات انتقامية ضدهم، ما بين اغتيال وتنكيل واعتقال وما يتعلق بذلك من تلفيق وتدليس وافتراء.
وهذا التوجيه الفاسد من قِبَل الأنظمة الحاكمة في الدول النامية، لمنظوماتها الأمنية، يترتب عليه كثير من المفاسد، التي يمكن تلخيص بعضها فيما يأتي:
أولاً: نقضُ هذه المنظومات الأمنية للعهد الوظيفي، الذي نصَّت عليه الدساتير والقوانين في تلك الدول باختلاف مشاربها مِن شرعٍ أو قانون وضعي، حيث نصَّت جميعها على أن المنظومات الأمنية يجب أن تكون في خدمة أمن المواطنين وليس النظام الحاكم.
ثانياً: هذه المنظومات الأمنية تقتدي بالنظام السياسي الذي يوجهها، فهي حين ترى النظام الحاكم يستغلها لحماية نفسه وإرهاب خصومه، فإن العاملين بها يرتكبون الجريمة ذاتها بحق خصومهم؛ حيث يقومون بتهديد أمن أي مواطن يقع بينه وبينهم أي خلاف من أي نوع.
ثالثاً: هذه المنظومات الأمنية التي تعكف على خدمة النظام الحاكم، تحاول دوماً أن تظهر بصورة المخلص النشيط في عمله، فتقوم بتقديم معلومات مزيفة، تُوهِم بها النظام الحاكم بأنها تنفِّذ ما يأمرها به على أتمِّ وجهٍ.
رابعاً: تلك الجرائم التي ترتكبها المنظومات الأمنية في الدول النامية تؤدي إلى كثرة أعدائها وأعداء النظام الذي يوجِّهها، وهي لن تكون قادرة على مواجهة أولئك الخصوم جميعاً؛ لأنهم يعرفون ضَعف تلك المنظومات وعجزها وتخبُّطها الفكري، ويتعاملون معها انطلاقاً من ذلك.
ومن خلال طريقة تعامل تلك المنظومات الأمنية في الدول النامية، لوحظ أنها تعتمد بشكل مستمر على الدَّجل المعلوماتي؛ فهي حين ترتكب جريمة بحق أحد خصومها أو خصوم أحد أركان النظام الذي يوجِّهها تزعم أنها تعرف عنه كل شيء، وتخلط معلومة صحيحة بعشرات أمثالها من المعلومات المزيفة، وتتعامل معه بثباتٍ شديد في موقفها مِن قبيل الحرب النفسية، وهي الحرب الوحيدة التي تجيدها تلك الأجهزة في الدول النامية، وتستمدُّ ثباتها ذلك من نفوذها السياسي وليس من ضعف الخصم الذي تواجهه، كما نلاحظ أن الأسئلة التي توجهها تلك الأجهزة إلى خصوم النظام لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالاتهامات الملفَّقة لهم، فقد تمَّ اختيار العاملين بهذه الأجهزة وفقاً لمعايير تُنبئ بفشلهم الثابت المحقَّق في كل عملٍ يُسنَد إليهم؛ لذلك نجد أنه كلما ازداد الانحراف السياسي ازدادت الجرائم باختلاف أنواعها وتعدُّدها، وعجزت الأجهزة الأمنية عن ملاحقة مرتكبيها؛ لانشغالها بملاحقة من لا ذنب لهم، ممن سلَّط النظام الحاكم عليهم حماقته خوفاً من تأثيرهم الفكري في المجتمع.
وما يزيد الأمر سوءاً أن تلك الأجهزة الأمنية في هذه الحال تحالف المجرمين المفسدين في الأرض، على أن تتستَّر عليهم وتساعدهم في ارتكاب جرائمهم، مقابل أن يكونوا سنداً لها ضد من يتفوَّه بكلمة حقٍّ من المواطنين الأبرياء، الذين سُلِبوا حرِّيَّة التعبير، في ظل أنظمة سياسية فاشلة، تستغل مقدَّرات شعوبها في القضاء عليهم.
والانحراف السياسي قد تُمارسه أيضاً أنظمة قوية وناجحة، لكنها تختلف عن الأنظمة الضعيفة في طبيعة ممارساتها؛ فالأنظمة القوية وإن استبدَّت فهي تدرك هدفها، وتعلم عدوَّها، ولا يشغلها ذلك عن إِحداث نهضةٍ تُنسَب إليها وتتكلم بلسان حالها، أما الأنظمة الضعيفة فتقضي على كل شيء، ولا تريد أن ترى سوى أعضائها، وخُدَّامها من الأجهزة الأمنية التي وهبت نفسها لخدمة تلك الأنظمة.
والعاملون بتلك الأجهزة يعلمون حقيقة أنفسهم، وهو ما يدفعهم إلى الشعور بالنقص تجاه أهل الأفضليَّة الحقيقيَّة من أهل العلم والفكر والإبداع والرأي السَّديد، الذين هم أساس نهضة الأمم، ولذلك نجد أن هؤلاء هم أكثر فئات المجتمع في الدول النامية عُرضةً لمضايقات تلك الأجهزة، التي لا يريد العاملون بها أن يروا أحداً أفضل منهم إلا وقد سلَّطوا عليه أحقادهم ومكائدهم؛ ظنّاً منهم أنهم بذلك قد ألحقوا به عار الاعتقال أو السجن، بينما العار الحقيقي يتمثل في طبيعة عمل تلك الأجهزة التي جعلت نفسها خادمة لنظامٍ حاكمٍ تؤلِّهُهُ اليوم ثم تؤلِّهُ غيره غداً.
لقد مكَّنت الأنظمة السياسية في الدول النامية لأجهزتها الأمنية تمكيناً فاحشاً، حتى جعلت مصالح الناس في أيديها، فأصبحت هي الحَكَم في كل شيء، وهي صاحبة الكلمة في أمور علمية وثقافية واجتماعية واقتصادية لا تدرك شيئاً منها، وهي صاحبة الكلمة عند القضاء، تقدِّم للقضاء معلومات يعلم القاضي تمام العلم أنها غير صحيحة، وبالرغم من ذلك يتخذها أساساً لحكمٍ فاسدٍ يُصدره.
إن هذه الأنظمة ترتكب من الجرائم ما لم يخطر على بال فرعون أن يرتكبه، فإن فرعون حين أراد مناظرة نبي الله موسى عليه السلام طلب منه أن يضرب له موعداً، كما بيَّن لنا القرآن الكريم، في قوله تعالى: (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى) [طه: 57-60]، ونلاحظ هنا أن فرعون ترك لموسى -عليه السلام- تحديد الموعد، ثم استجاب فرعون لذلك الموعد وحضر بعد أن جمع مكائده وحاشيته، أما هذه الأنظمة فلا مجال لديها لمناظرةٍ أو سؤالٍ أو جوابٍ، فلديها أجهزتها التي تسمِّيها بالأمنيَّة، تسلِّطها على كل مَن يَبْلُغُها عنه أنه قال كلمةً تعارض مصالحها المغرضة، بالرغم من أن رؤوس هذه الأنظمة لا يدَّعون الألوهية كما فعل فرعون، وخصومهم ليسوا أنبياء، وجميعهم أبناء بلد واحد، ودين واحد في الأغلب الأعم، لكن انظر إلى أي حدٍّ بلغ الطغيان والبغي!
والفارق بين عضو الجهاز الأمني في الدول النامية ونظيره في الدول المتقدمة يبدأ من معايير الالتحاق لدى كلٍّ منهما؛ فالدول النامية فُرِضت عليها أنظمة سياسية متسلطة، لا يَعنيها الذكاء والقدرات العقلية أو الصحة النفسية ونحو ذلك مما يجب توافره في العاملين بالأجهزة الأمنية؛ لأنها تريد أشخاصاً يسمعون ويطيعون دون أدنى تمييز أو إدراك، فهم يضعون في حسبانهم من أول يومٍ اعتباراتٍ وهمية، يحاول قادتهم إقناعهم بأنها حقيقة مسلَّم بها؛ حيث يعتقدون أنهم أعلى مِن غيرهم وليسوا حرَّاساً لهم أو حُماة لأمنهم الداخلي، بل يتخذون مِن عملهم هذا وسيلة لإرهاب الناس، وقضاء مصالحهم الخاصة، والتخطيط لإثارة الفوضى؛ حتى يشعر النظام الحاكم بشدة حاجته إليهم، فيغدق عليهم المزيد من الامتيازات، التي لا يستحقون شيئاً منها، في ظل أنظمة لا مجال فيها لعدلٍ أو أمنٍ.
والأمر يختلف عن ذلك في الدول المتقدمة؛ إذْ يدرك العاملون بالأجهزة الأمنية حقيقة مهامِّ عملهم، الذي التحقوا به عن قناعة منهم، وتوافُر ما يؤهلهم له علميّاً ونفسيّاً وأخلاقيّاً وبدنيّاً، فهو بالنسبة إليهم عملٌ كأي عمل، لذلك يحرصون على إتقانه، ويتقبَّلون تَبِعاته، ولا نجد لديهم ذلك الاستغلال الوظيفي، أو الشعور بالنقص نحو الآخرين أو نحو ذلك مما نجده عند نظرائهم في الدول النامية.
ولا شك أن تلك العقيدة الباطلة التي يعتقدها العاملون بالأجهزة الأمنية في الدول النامية، وما يترتب عليها من سلوكٍ شاذٍّ، وأعمال إجرامية مخالفة للشرع والقانون والعُرف، بجانب خضوعهم التام للنظام الحاكم على حساب مصالح الناس، لا شك أن ذلك كله يجعلهم موضع نفور وازدراء من قِبَل الناس، الذين هم شركاء لهم في مجتمعهم الذي يعيشون فيه، غير أنهم لا يبالون بشيء من تلك المكانة المزرية في أعين الناس؛ لأنهم يعتقدون دوام حالهم، والواقع المؤلم يشجعهم على ذلك، في ظل استكانة الناس عن مواجهة أنظمتهم السياسية الفاشلة، التي تهَب ما لا تملك لمن لا يستحق، وتسعى دوماً إلى اصطناع أمثال تلك القِلَّة القليلة التي تحاول من خلالها السيطرة على مجتمعات كاملة، دون أن تتوافر لديها أيَّة مقوِّماتٍ للقيادة، مِن علمٍ ودِينٍ وأخلاق.
وقد كشفت الثورات الشعبية التي اندلعت في بعض الدول النامية، وأطاحت بأنظمتها الحاكمة، في نهاية العقد الأول وبداية العقد الثاني من هذا القرن، عن الحجم الحقيقي لقدرات أجهزتها الأمنية، التي بدَتْ ضئيلة للغاية، وارتدى العاملون بها ثوب الذِّلَّة والمسكنة بعد سقوط سادتهم من سُدَّة الحكم، إلا أن تعامُل الناس معهم من منطلق العاطفة والتسامح قد جعلهم يعودون أسوأ مما كانوا، في ظل أنظمة سياسية أكثر انحرافاً وأشد طغياناً وأقل خبرة وأضعف إدارة من سابقتِها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.