إن المعرفة هي منار السياسة، وهي مرشدتها، والطلاق بينهما يؤسس للانتهازية، وتتيه المبادئ ويضيع المعنى والمعقول، وتصبح السياسة حينئذ تابعة لواقع متلون ومتغير في نوازله ووقائعه ومستجداته، وتتبدد المصالح العامة للبلاد والعباد، ويضعف التوافد على الشأن العام مشاركة واقتراحاً ومراقبة واهتماماً.
والسياسة لها محاذير، متمثلة في فقدانها لبوصلة المعرفة المرشدة لها، وفي ارتدائها عباءة الانتهازية التي تحرمها المبادئ، مما يفقد المنشغلين بها المصداقية والثقة.
فما هو المفهوم المرجعي للسياسة؟ وما المبادئ العامة التي تحفظ التمثيل الصحيح لهذا المفهوم؟
أصل السياسة لغة
ساس، يسوس، سياسة. ونقول "ساس القوم"، أي: دبر شأنهم وتولى أمرهم (انظر منجد الطلاب، دار المشرق بيروت). وساس الأمر سياسة، أي: قام به، والسياسة هي القيام على الشيء بما يصلحه، والسياسة فعل السائس، فيقال فلان يسوس الدواب إذا قام عليها وراضها، والوالي يسوس رعيته (انظر لسان العرب لابن منظور).
واصطلاحاً يمكن أن نعتبر السياسة في الزمن المعاصر بمثابة التدبير الرشيد للشأن العام للبلاد، وذلك من أجل حفظ مصالح المجتمع والدولة المرتبطة بتنمية القدرات البشرية بغاية قيام شخصية جمعية معتزة بالشخصية العامة للمجتمع هوية وذاكرة وتاريخاً وتراثاً متنوراً مشجعاً على البذل والاجتهاد. وقيام دولة مؤهلة لتحقيق نهضة البلاد. وأن تكون قادرة على درء المفاسد الكبرى التي تقضي على الوازع الوطني، وتفكك لحمة البلاد، وتزرع التواكل داخلها، وتشجع على سيادة منطق المنفعة الشخصية الذاتية والخلاص الفردي، مما يجعل مساحة العطاء التنموي ونفعها العام ضئيلة بالمقارنة مع مساحة الفساد بكل أنواعه المالي والاقتصادي والسياسي والأخلاقي.
مبادئ السياسة العامة
يحيلنا موضوع المبادئ العامة إلى عناصر مفهوم السياسة المتمثلة في حقيقة أن السياسة هي تدبير راشد للشأن العام، وهذا يعني أن موضوع السياسة الجوهري هو الشأن العام ذو الصلة بكل قضايا المجتمع ثقافياً، اقتصادياً، سياسياً، اجتماعياً، وتنموياً، وأن غاية هذا الاشتغال هو التدبير الراشد بما يحقق أكبر قدر من المصالح العامة للمجتمع مع تجنيب الأخير أكبر قدر من المفاسد العامة، وفي ذلك تضطلع نحو نهضة المجتمع وتنميته وتبوئته مكانة معتبرة ضمن المجتمعات النافعة.
ذلك التدبير الراشد للشأن العام، هو تدبير تشاركي يسهم فيه كل المجتمع تقريراً وتنفيذاً وتقويماً، وبالتالي ينتفي ذلك المفهوم التقني للتدبير (التكنوقراط) والذي يحصر السياسة في التنفيذ التقني والآلي فقط.
السياسة هي وسيلة في ذاتها لخدمة المصالح العامة، وهي بذلك تمتنع أن تكون مجالاً خاصاً محصوراً على فئة معينة تحترفه مهنة لقضاء أغراض شخصية أو فئوية. فالمصالح العامة ترتبط عضوياً بحفظ ضرورات الاستمرار النفعي أخذاً وعطاء على مستوى البلاد ومحيطها الإقليمي والعالمي، هذه الضرورات التي يمكن عدها في التالي:
(1) حفظ الهوية التي هي مصدر تميز للشخصية العامة للمجتمع إذ لا وجود له بدون أن يتميز عن غيره، ومنه حماية نظام قيمه الكبرى.
(2) حفظ أهليته الفكرية والثقافية التي هي مصدر عطائه العلمي والتنموي، ومنه تطوير نظامه التربوي والتعليمي والبحث العلمي بما يخدم غاية امتلاك ناصية العلم والعطاء.
(3) حفظ الحريات ومنها حرية أفراده الشخصية وكرامتهم، وإفساح المجال للحريات العامة ومنها الحق في التنظيم والاجتماع بكل الأشكال المنصتة لنبض المجتمع؛ وبالتالي خلق وحفظ تعددية مجتمعية تعمق عملية المشاركة السياسية. تلبية الحاجات الاجتماعية باعتبارها مصدر الاستقرار الاجتماعي الذي هو شرط العطاء والنهضة، ومن ذلك توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية من سكن وصحة، وكذا ضمان قدرة شرائية للأفراد بحد يكفي ضمان الكرامة الإنسانية ويلبي الحاجات الأساسية، وكذا ضمان الحق في الشغل وتكافؤ الفرص.
حفظ المال العام من 3 محاذير شديدة الخطورة على مصالح المجتمع؛ النهب والتبديد والعبثية في إسرافه. ذلك أن المال العام هو حق المجتمع في كفافه والنهوض به ورفاهيته، فالتصدي لمحاولات نهبه هو من الواجبات الكبرى. والحيلولة دون تبديده هو من الإعلاء من شأن مسؤولية الوازع الوطني في الحرص عليه، ونبذ العبثية في تبديده هو من التشديد في إسرافه في النفع العام بحسب التمييز بين الضرورات والكماليات.
إن محور الاشتغال بالسياسة وهدفها هو الإنسان، من حيث ضمان كفاياته الاجتماعية، كما سبق ذكره، وتنمية قدراته الفكرية والمعرفية. حين يكون الإنسان محور البرامج الأساسية للمشتغلين بالسياسة فرادى وأحزاباً، تأخذ السياسات العامة وجهة اجتماعية بالأساس، وتتمحور القوانين المالية والاقتصادية والتشريعية عموماً على هذا المحور، فيكون الهاجس هو الموازنات الاجتماعية وليس المالية، ويكون المعيار في فشل السياسات هو النسب والمؤشرات المتعلقة بالتنمية البشرية، وليس التي تنفصل عن هذا المعيار فيضحي هاجسها الأساسي ومعيار قياس تنميتها هو النسب والمؤشرات المتعلقة بالعجز التجاري أو المالي الصرف.
خلاصات عامة
1- السياسة هي تدبير راشد للشأن العام.
2- غاية الاشتغال بها هي حفظ ضرورات الاستمرار النفعي أخذاً وعطاء على مستوى البلاد ومحيطها الإقليمي والعالمي، ومنه حفظ نظام قيم المجتمع الكبرى الذي هو مصدر تميز شخصيته العامة، وحفظ كفاياته الاجتماعية، وحفظ ماله العام من النهب والتبديد والعبثية.
3- محور الاشتغال بالسياسة هو الإنسان تنمية لقدراته في كل المجالات، لأنها هي المقدمة الأساسية والمادة الخام لتحقيق التنمية الشاملة المستدامة والنهضة المأمولة.
4- تدور السياسة حيثما دارت هذه المبادئ العامة التي ذكرنا سلفاً، ولا تدور حيثما دارت موازين القوى.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.