مُثقلة اللغة التي تستخدمها المجتمعات بقيم تلك المجتمعات، كما هي مثقلة بما يرفض تلك القيم. والعلاقة بين اللغة والفكر الذي ينتجها تمرّ عبر ذاتٍ واعية، تمتصّ الواقع الذي احتضن اللغة وأنتجها عبر قنواته الخاصّة. إذاً اللغة تحمل العامّ كما تحمل الفرديّ، فإذا كانت الثقافة التي أنتجت اللغة هي ثقافة منطقيّة علميّة سيكون من البدهي أن ينتج فكر علميّ، هنا نسأل: أيّ فكر ذاتيّ أو عام، قادر على إنتاج لغويّ ساخر؟ وهل السخرية حالة فرديّة تتجاذبها البنى الفكريّة لدى السّاخر، فيتحكم فيها وعيه الخاصّ أم تيّار وعي يتشكل في المجتمع عبر اللغة؟
يقول كيركغارد عن السّخرية: "مثلما تبتدئ الفلسفة بالشك، كذلك تبتدئ الحياة الكريمة، تلك التي نصفها بالإنسانيّة، بالسخرية." فعن أيّ حياة يبحث السّاخر العربيّ؟
نشهد في عصرنا ظاهرة انتشار النكات والتعليقات السّاخرة، لعلّ زخم الظاهرة بدأ مع الثورات العربيّة، وفي لبنان مثلاً نلحظ كثافة لهذه الظّاهرة وكأنّ من يطلقونها متفرّغون تماماً لها، تعليقات تهزأ بالواقع المعيش المتردّي، سواء لناحية الأخلاق أم الخدمات أم ما تسمح به منظومة الحكم من مساحة للتّعبير، أم غيرها من المواضيع المتعلّقة بالواقع.
لا تحيد تلك النكات والتعليقات عن أشكال السخرية الأكثر شيوعاً في رأي كيركغارد وهي: "أن يقول المرء شيئاً على نحو جاد، في حين أنّه يقصد عكس ذلك. أو أن يتحدث المرء بشكل هازل أو مضحك عن شيء قصد منه أن يبدو جادًّا" فمع تزايد وطأة أزمة البنزين وشيوع أخبار رفع الدعم الذي تقدمه الدولة لتحديد سعر بعض السلع الأساسيّة، ما يجعل الرواتب غير كافية لبلوغ أماكن العمل، نجد نكاتاً من نحو: "انتقلنا والحمد لله من مرحلة ما في بنزين، إلى مرحلة ما معي لعبي بنزين" تختبئ خلف هذه الجملة السّاخرة منظومة اجتماعيّة وسياسيّة وأخلاقيّة تبحث عن خلاص، تبدو منظومة متناحرة متضادّة فيما بينها، توحي بالشّرخ الحاصل في بنية المجتمع على أصعدة متعدّدة، وهي كذلك في حالة تضاد مع الخطاب السّاخر، الذي يبدو أنّه يتبنّى فكراً يحاول تغيير واقع مفروض عليه من قبل تلك المنظومة، وهكذا فإنّ السّخرية المتمثلة في ما يشبه هذه الجملة، تضع المجتمع في معسكرين: معسكر تكريس الحاصل، يتبنّى خطاب السلطة السياسيّة وما ينضوي تحتها من سلطات رديفة أو معاضدة، ومعسكر يحاول أن يغيّر السّائد ويفتك بسلطته، عبر التشكيك برصانة يدّعيها.
عند هذا التأويل تنكشف السّخرية بمعناها التقليديّ، أي هدم كلّ ما هو غير مكتمل وغلط، وتتبدّى قدرتها على إيجاد تحوّل في الفكر لا بدّ منه لبلوغ القيمة الأصيلة؛ بمعنى آخر تجد إجابة للسؤال الأهمّ الذي يضمن للإنسان الحياة الكريمة: ما الإنسان؟ ما الوجود البشري الحق والأصيل؟ من آثار مثل هذا التساؤل أن يهزّ الوعي، وعي الفرد السّاخر بقيمة وجوده الأخلاقيّ، وقدرته على السّخرية من ذاته، كما وعي الجماعة التي ينضوي ضمنها، إذ هو خلق نحوه اهتماماً فيما هو يشير إلى الزيف الحاصل في الواقع. وهكذا تمتلك السّخرية القدرة السّحرية على إعادة الخلق عبر الهدم.
تستطيع اللغة التي تقدّم محتوى رصيناً، كالمحتوى الدينيّ مثلًا، أن تتبنى خطاباً ساخراً من ذلك المحتوى، بل من كل شيء في المجتمع، حتّى من الإنسان الذي يفكر من خلالها، بل من نفسها، وكأنّ واقعها وواقع الناطقين بها بات لا يؤمن به أحد، حتى لتتحوّل السّخرية إلى سياق للتجاوز، التجاوز الذي هو بمعنى الهدم، والهدم لكلّ شيء حتّى للذّات السّاخرة نفسها.. الهدم من أجل الحريّة.
لا تفوتني هنا صورة الهدم التي كرّستها بعض قصص القرآن، بدءاً من إبراهيم إذ يهدم الأصنام ويبقي في يد أحدها أداة هدمه، ويقف أمام من أرادوا حرقه بصمت ثمّ يهوي في النّار فتنقلب برداً وسلاماً، وصورته يصحب ابنه إلى الذبح، مكرّساً بذلك مبدأ السّخرية القائم على "التعالي على ما هو محدود من أجل الوصول إلى اللانهائيّ. فالفكرة ينبغي أن تتنازل عن وجودها الأصلي من أجل أن تتجسد" وليس برأيي بعيداً من ذلك صورة يوسف؛ إذ هو أمام إخوته يهدم كذبهم عبر اتهام أخيه بالسّرقة، بعد أن كان قد راح في سخريته من كلّ شيء حكم تلك الفترة أبعد ما يمكن لإنسان أن يحتمله من هدم ذاتيّ، عبر ذوبانه الشخصيّ في الحبّ بقهر حبّه لزليخة، بل قهر نفسه بالتنكر لجمالها الذي غوى امرأة العزيز. أقول ليس ذلك بعيداً؛ إذ السّخرية هدم وإذ الهدم حريّة أنّ رسالة محمّد، صلى الله عليه وسلم، سخرية للكثير مما حمله فكر البشر قبلها وبعدها. وأنّ الرّسالات السّماويّة ولعلّ غيرها من التبشيرات أو المعتقدات انضوت على الكثير من السّخرية الخلّاقة الحكيمة.
إذ تتجاوز الذّات السّاخرة كلّ حتميّ أو مطلق ونهائيّ هي تفتح آفاقاً للتأويل لانهائيّة وأكثر جدّة وعصرنة، لأنّ الخطاب الحتميّ مقيّد ومعروفة نهاياته وهو عصبيّ أو متطرّف، بينما تريد السّخرية الحريّة من دون شروط، وتؤمن بلحظيّة الخلق وإمكانيّة تجديد الوعي، من دون تطرّف أو تعصّب أو انقياد أعمى لفكرة بعينها، بل هي في سعي دائم إلى اجتراح معجزة وجودها الدائم عبر هدمها الدائم، وإبداع الذّات الدائم بتجاوزها، وهكذا يتحقّق الوجود الحرّ الأصيل، وتلتقي الذّات بما هو أخلاقيّ وجوهريّ.
إذاً السّخرية محاولة للاستمرار عبر تجدد البدايات.. ألا يشبه ذلك تأويل النصوص إذ هي لغة؟ أليس ذلك أشبه بروح الكون الآخذ منذ مليارات السنين في السّير والتحول، ألا يصبح مطلب السّخرية هو تدمير ما لا يتماهى مع قدرة الفكر والمجتمع والإنسان على الخلود عبر التماهي مع المطلق من خلال نفي الحاصل؟
قد يفسر ذلك لماذا لكلّ عصر بهلول أو جحاه؛ تحتاج البشريّة إلى من يحكي عن المبادئ بحريّة مطلقة حاضراً كقوّة مكتفية بذاتها، إيجابيّتها في أنّها تشيع اللذة رغم كونها سلبيّة في أساسها، السلبيّة هنا في أنّها تقول عكس المعنى الذي تقصد في أغلب الأحيان. "إن الشكل السخريّ ينفي من الكلام نفسه بنفسه، إنه يلغي نفسه بنفسه مثل قائل اللغز الذي يعرف حله في الوقت نفسه الذي يطرحه فيه أمام الآخرين، إنه لا يكون لغزاً بالنسبة إليه، لكنه لغز أمام الآخرين، كذلك صاحب التهكم يعرف أنه ليس جاداً، في حين يعتقد الآخرون أنه كذلك." وهذا ما تفعله النكات بنا ونحن نطالع صدقيتها في التعبير الحرّ عن خوفنا من الموت وعجزنا أمام الفقر وانهزامنا أمام السّلطة أو انقيادنا لمجرى الأحداث من دون أي فعل ينبئ عن وجودنا الفعليّ مستحقين لحياة أصيلة كريمة. فالسخرية "تظهر أنّ الواقع لا يتطابق مع الكلام. لذلك، فهي تفيدنا عن خطابنا أكثر مما تفيدنا عما يوجد في الواقع". فهي لا ترغب في الواقع أصلاً، إنما كيانها حاضر في تشكيكها بخطاب الوضعيّ من أفكار وقوانين وأنظمة وسلوكيّات.
تضع السّخرية رؤيتها للحاصل في مرتبة أعلى منه، من دون أن تظهر تعالياً أو غروراً، بل هي تضع نفسها في قوالب قد يراها البعض ساذجة أو هزليّة، بما لا يكسبها قيمة إزاء الآخر، وهذا بالضّبط ما تريده السّخرية، أن تبدو أبعد من الفكر الذي تنتقده. والمراقب لبعض البرامج التلفزيونيّة السّاخرة مثلاً سيلاحظ أنّ السّاخر لا يوجه خطابه إلى القاعدة التي ينتقدها، وهو لا يحكي فيما الخطاب الآخر يحكي، بل على العكس تأتي السّخرية كما يأتي بطل المسرحيّة الأوّل، آخر من يدخل الصّالة، بمعنى أنّها "تترك الآخر يتكلم ليصل إلى اللحظة التي يتكشف فيها خطابه عن خوائه". هي تحاول أن تبدي للمتلقي أن أيّ خطاب يحاول اختزال الحقيقة، عبر امتلاك المعرفة أو ادعائه ذلك في أغلب الأحيان هو خطاب باهت وميّت، لذلك فالنكات والبرامج السّاخرة تكاد لا تترك أيّ حرف يتضمنه خطاب السّلطة، المتقنّع بالموضوعيّة، إلّا وشرحته مظهرة أنّه ليس سوى كلمات خاوية من أيّ معنى، ولا يهدف إلّا إلى السّيطرة وامتلاك الإنسان.
قد يلتبس على المتلقي قولنا إنّ السّخرية موجودة في الخطاب الدينيّ الساعي إلى خير الإنسان، كما هي موجودة في خطاب السلطة التي تزيف الحقائق، وتلك هي الحقيقة الحزينة التي تطرحها السّخرية، إذ الإنسان هو القيمة؛ فقد جاء الخطاب الدّينيّ ليدل على طريق الرّوح، ثمّ جاءت السّياسة فأحكمت وثاقها على الدينيّ وصادرت من خطابه وعي الإنسان كلّ ما هو متعلّق بالروح، فتحول الدين إلى طقوس وشعائر وأحكام وقوانين تنظم حياة البشر، وأُغفل الكثير مما هو روحانيّ أصيل في علاقة الإنسان بذاته وحريّته، لا مجال هنا للاستفاضة طبعاً، وهكذا تماهى خطاب الدّين بخطاب السلطة، وفي عالمنا العربيّ أمثلة كثيرة على ذلك، وعليه فقد أضحت السّخرية التي أتى الخطاب الدينيّ بدءاً مثقلاً بها بما تحمله من حريّة، تبدو بعيدة من الحكمة والعكس صحيح. "إن السخرية توجد في المجتمع حين تسود عدالة الإنسان المقلوبة"، لذلك فلا غرابة أن تسود السّخرية مجتمعات كمجتمعاتنا العربيّة المحقونة بخطاب سياسيّ يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة.
يقول كيركارد: "حيث توجد حياة، يوجد تناقض، وحيث يوجد تناقض، يكون المضحك موجوداً".
وبين أحداث اجتياح فيروس كورونا العالم، وتوقف عجلة الحياة، والربيع العربيّ قبله، وثورة لبنان والتغيرات نجد أنفسنا نقف على حافة الحياة بما هي صورة معكوسة للموت، ولا فرق سوى في التوجه. ليس عليك سوى أن تحدّد خطواتك، في أيّ اتجاه أنت، مقبل أم مدبر؟ أيّ قدر ساخر تختاره سيطير بك نحو فضاءات ملوّنة؟ أو أيّ انكماش سيهوي بك نحو العتمة؟ أيّ لغة ستغيّر بها ذاتك فتولد أو تموت؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.