رواندا، تلك الدولة الإفريقية التي شهدت أعنف إبادة جماعية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أبيد حوالي مليون شخص من عرقية التوتسي في حوالي 100 يوم فقط، يراها العالم اليوم كمثال للنهضة الحضارية في دول إفريقيا جنوب الصحراء، تتنوع الألفاظ في وصفها، كالنموذج الرواندي، والمعجزة الاقتصادية الرواندية… ولكن تلك المعجزة لا تعدو كونها سحباً من أرقام براقة على المستوى الاقتصادي أو على مستوى الحريات، وهو ما سنقوم بتوضيحه في هذا المقال.
معادلة الأمن والحرية
يحز في نفسي اليوم رؤية شرائح واسعة من مجتمعاتنا العربية يقترن عندهم اسم رواندا بالنجاح الاقتصادي، ويكون هذا الألم أكبر عند سماع أفراد من الطبقات المثقفة تُكرر هذه الأسطوانة في جهل تام بوضع هذه الدولة، وطبعاً في إطار جلد الذات، الأمر الذي تعوّدنا عليه نحن أهل هذه البلاد. الأدهى من كل هذا هو تغييب المعطى الحقوقي عند تناول النموذج الرواندي، وهو لعمري دليل على ضحالة الوعي الجمعي لدينا وخطورة الوضع الذي وصلنا إليه.
إن كانت المؤسسات الحقوقية الدولية، الحكومية منها أو غير الحكومية تتفق في شيء، فإنها تتفق على أن رواندا دولة ديكتاتورية مستبدة، هذا ما يمكن أن نستخلصه من التقارير السنوية لأهم هذه المؤسسات، وإليكم بعضها:
- مراسلون بلا حدود تصنف رواندا في المرتبة 155 (من جملة 180 بلداً) في مؤشر حرية الصحافة.
- هيومن رايتس ووتش تعتبر رواندا دولة غير حرة، تعطيها 22 نقطة (من جملة 100) في مؤشر الحرية، وتحتل بذلك المركز 171 (من جملة 210 بلدان).
- مجلة The Economist تعتبر رواندا دولة سلطوية، وتصنفها في المرتبة 130 (من جملة 167 بلداً) في مؤشر الديمقراطية.
يُعرف بنجامين فرانكلين، وهو أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة بمقولة شهيرة "كل من يوافق على استبدال الحرية بالأمن لا يستحق كليهما"، وهي مقولة تتفق مع مبادئ الإسلام من قدسية كرامة الإنسان وحريته، اللتين كرمه الله بهما، وهما مقدمتان على الأمن، حيث لا فائدة من أن يعيش الإنسان مظلوماً مقهوراً معذباً بحجة كونه في أرض آمنة، وأن لديه قوت يومه، بينما أنه حتى الحيوان لا يقبل بالحد من حريته.
تعيش رواندا اليوم على وقع اعتقالات عديدة في صفوف المعارضة وعمليات تعذيب واختفاء قسري، وحتى عمليات قتل أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها مريبة، ناهيكم عن التضييق الذي تتعرض له وسائل الإعلام وحالة الرعب التي يعيش فيها الناشطون على الإنترنت بسبب تدوينات أو تغريدات مناوئة للنظام. وأبرز أمثلة على ذلك ما يتعرض له قادة حزب القوات الديمقراطية المتحدة المعارضة، حيث اختفى عدد من قيادات الحزب في 2018، مثل بونيفاس تواغيريمانا وإوجان ندرييمانا، بينما وُجد قياديان آخران مقتولين في ظروف غامضة في 2019، وهما أنسلم موتيمانا وسيلديو دوسابومريامي، وتتعدد هذه الحالات في صفوف عامة الشعب بصفة كبيرة، وهو ما تؤكده تقارير هيومن رايتس ووتش ومنظمة الشفافية الدولية، دون أن ننسى المسيرة النضالية لرئيسة الحزب فيكتوار أنغابير، التي حوكمت وسُجنت عدة مرات.
أما بالنسبة لحرية الصحافة فوضعها ليس بأحسن حال من حرية التعبير، حيث تشير تقارير "مراسلون بلا حدود" أن حوالي 35 صحفياً قد أُجبروا على النفي، بينما أوقفت قناة "بي بي سي" باللغة الكينية-رواندية عن البث سنة 2015، بسبب بثها لوثائقي حول الوفيات الناجمة عن العمليات العسكرية للحزب الحاكم. كما تتواصل الإيقافات في صفوف الصحفيين المحليين لأسباب غامضة، مثل حالة الصحفي ديودونيه نيونسينغا سنة 2020.
وبخصوص الديمقراطية، فيمكن لمنظّريها أن يرقدوا بسلام، حيث إن الرئيس الرواندي فاز بالانتخابات الرئاسية سنة 2003 بنسبة 95%، ثم بنسبة 93% في 2010، قبل أن يعدل الدستور لولاية ثالثة كي يفوز بانتخابات 2017 بنسبة 98%.
بروباغندا المعجزة الاقتصادية
من المكابرة والجحود إنكار تحسن الوضع الاقتصادي لرواندا بعد الإبادة الجماعية في التسعينات، حيث إن كل المؤسسات الدولية المستقلة منها والحكومية، تتفق على أرقام النمو ومضاعفة الناتج الداخلي الخام، وكذا انفتاح البلاد على الأسواق والمال والأعمال حتى أصبحت في مرتبة متقدمة في مؤشر سهولة ممارسة الأعمال للبنك الدولي.
إلا أن هذه الأرقام لا تعكس بالضرورة مستوى الرفاهية والمعيشة لدى عامة الشعب، وهو بالضبط حال أغلب الديكتاتوريات، مثل ما كان عليه الحال في تونس في ظل ديكتاتورية الرئيس بن علي، حيث كان هو نفسه يوصف بصاحب الفضل في المعجزة الاقتصادية التونسية عندما كانت أرقام السياحة في أحسن مستوياتها، وآلة البروباغندا النظامية تُمارِس حملة إعلامية بالترويج لصور بعض المنشآت العصرية والأحياء الراقية كأنها حال أغلب الشعب التونسي، بينما يكفي الخروج عن المسالك السياحية ببضعة أمتار للغوص في هول الفقر والبؤس والقهر الذي كان يعيش فيه التونسيون، في المدن أو في المناطق الداخلية على حد سواء.
هذا بالضبط ما يقوم به النظام الرواندي، عبر الترويج لصور الأبراج البلورية اللامعة وسط العاصمة كيغالي، وبعض الشوارع النظيفة، التي هي أقرب للديكور منها للحقيقة، بينما تعيش أحياء كاملة في العاصمة كيغالي وأغلب المدن والقرى الريفية في فقر مدقع، لا تحتوي حتى على طرق إسفلتية بسيطة.
نشرت صحيفة فيننشيال تايمز تقريراً سنة 2015 أثبتت فيه أن النظام الرواندي قد تلاعب بأرقام نسب الفقر، ما دعا مؤسسة Oxford Policy Management البريطانية إلى عدم التوقيع على تقرير المعهد الرواندي للإحصاء، الذي ساهمت المؤسسة في إصداره.
لحسن الحظ أن عدة مؤشرات تحظى بالاحترام العلمي والاستقلالية، تُقدم لنا صورة أوضح عن وضع الشعوب في العالم، مثل مؤشر التنمية البشرية الذي يقيس مستوى رفاهية الشعوب، ويجمع بين التنمية الاقتصادية ومستوى المعيشة والصحة والتعليم، وهو الذي تحتل فيه رواندا مركزاً متأخراً للغاية في 2020: المرتبة 160 من جملة 189 بلداً مصنفاً بمعدل 0.543.
إن الهدف من هذا المقال هو أن نساهم مساهمة بسيطة في مجابهة البروباغندا الإعلامية التي تُمارسها الأنظمة السلطوية والديكتاتورية في العالم، والتي عادةً ما تنطلي على العامة، خاصة بانتشار المد الشعبوي على وسائل التواصل الاجتماعي. إن الشعوب الإفريقية التي عانت من الاستعلاء الحضاري والاحتقار الاستعماري سابقاً، والتي تعاني اليوم من السلطوية الديكتاتورية لأنظمتها السياسية تستحق مكانة أفضل بكثير، مكانة تُحترم فيها الخصائص الثقافية للحضارات الإفريقية بالتناغم مع القيم الديمقراطية التي أساسها الحرية والكرامة والعدالة.
المصادر
- هيومن رايتس ووتش، رواندا: أحداث 2020
- الشفافية الدولية، حقوق الإنسان في رواندا في 2020
- مراسلون بلا حدود، رواندا: عهد الرقابة والرقابة الذاتية
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.