على عكس الوضع الداخلي يجيد النظام المصري التعامل السياسي مع ملف حقوق الإنسان خارجياً بنسبة ما، ويملك في ذلك رصيداً من المناورة والانتهازية السياسية- تتعاظم بمرور الوقت- والقدرة على الالتفاف والتحرك بين البدائل، مستخدماً كل الأدوات المتاحة من أجل الحصول على مكاسب مؤقتة أو تخفيف الضغط الخارجي، من المنظمات الدولية، أو الحلفاء الغربيين.
بالطبع يدرك النظام أن علاقاته مع شركائه لا تُدار من خلال التصريحات التي يُطلقها المرشحون خلال الحملات الانتخابية، ولعلمه أنه يحمل أوراقاً مهمة وبضاعة رائجة، لكن ذلك لم يمنعه من البحث عن مساحيق تجميل، يخفي بها بشاعة ممارساته، ويرفع قدراً من الحرج عن شركائه.
مجموعة الحوار الدولي
في ذلك الإطار كان الحل المطروح طاقماً من رموز مدنية، يحمل اسم مجموعة الحوار الدولي، غالباً هو أحد وجوه الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، التي عانت مطولاً للخروج من رحم النظام، ثم لم تقنع أحداً.
وكانت اللجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان قد دعت- في وقت سابق- لتفعيل التعاون بين أطقمها ومنتسبيها وبين الأمم المتحدة ووكالاتها، للحصول على أشكال الدعم الفني والمالي المتاحة، والذي يُفترض أنه يُقدم للجمعيات والمنظمات الأهلية المستقلة.
واشترطت الهيئة أن يكون الدعم في إطار من احترام القانون والدستور والاتفاقيات والمعاهدات الدولية! كما جاء بأحد أهدافها المثبتة.
اسم "مجموعة الحوار الدولي" يشير إلى أن الهدف من هذا التجمع أو التشكيل هو التوجه للخارج، ونقل رسائل ما إليهم، فربما تجد وجوههم- هذه المرة- قبولاً، وتفسيراتهم مصداقية، كبديلٍ عن المومياوات العتيقة في المجلس القومي لحقوق الإنسان، أو البعثات الحقوقية السنوية إلى جنيف، التي لم تحقق نجاحاً يُذكر.
تُعرّف مجموعة الحوار الدولي نفسها على أنها مبادرة مصرية تقوم بجهود وطنية مخلصة، تضم عدداً من ممثلي الأحزاب والمجتمع المدني، وأعضاء من مجلسي النواب والشيوخ، من المهتمين بقضايا الوطن في السياسة والاقتصاد والحقوق والحريات.
ومن ضمن أهدافها المعلنة:
- بناء جسور الثقة مع الشركاء والأصدقاء الدوليين في كل القضايا والموضوعات محل الجدل والخلاف.
- توضيح الحقائق حول الشائعات والبيانات المغلوطة، وتحتاج إلى المُراجعة والتدقيق.
- البحث في شكاوى المواطنين من خلال الحوار مع القنوات الرسمية بالدولة المصرية.
أما أعضاء مجموعة الحوار الدولي فيبدو أنهم تم اختيارهم بعناية، من ألوان وطيف سياسي وجغرافي وديني متنوع، ويتم تصويرهم على أنهم عقلاء، لديهم رؤية، منفتحون على الخارج، يعملون ضمن أجندة النظام، لكنهم غير تابعين له.
وهم: السفيرة مشيرة خطاب، ومحمد أنور السادات، ونائب حزب النور أشرف ثابت (مجلس الشيوخ)، ونواب البرلمان: سحر البزار، وإيهاب رمزي، وفضية سالم، ويوسف الحسيني.
مجموعة الحوار الدولي تصدّر لوسائل الإعلام كلّ الإفراجات الأخيرة- على ضآلتها- على أنها إنجازات لها، بل إنها تستبق خروج المعتقلين بالبشارة بانفراجة قريبة خلال ساعات، وتُتبعها ببيان شكر للنائب العام لاستجابته للاعتبارات الإنسانية، وإصدار قرار بإخلاء سبيل المتهم، والأجهزة الأمنية لتعاونهم وحسن معاملتهم للمعتقل، وسرعة إنهاء وتيسير إجراءات إخلاء سبيله!
أدوار المبادرة ورؤيتها
واختصر محمد أنور السادات، رئيس حزب الإصلاح والتنمية، الرمز الذي يترأس مجموعة الحوار الدولي، ويلقى قبولاً دولياً، دورَها في التفاعل مع العالم الخارجي، وفيما يكتب عن مصر في المجتمع الدولي، وبيانات المجلس الدولي لحقوق الإنسان والبرلمان الأوروبي والكونغرس الأمريكي.
وأضاف: نتواصل معهم ونستمع لوجهات نظرهم، ونجهز الردود والتوصيات اللازمة، ونحاول أن ننقل الصورة للدولة المصرية بأجهزتها، خاصة في القضاء وأجهزة الأمن، من أجل الإصلاح والمراجعة والتصحيح، ونقلنا أيضاً بدورنا رأي الدولة المصرية في اللغة التي استنفدت في النقد، وتصوير الأمر بأنه تهديدات أو تلويح بقطع المساعدات، فنحن لا نريد تهديدات لكننا مستعدون للجلوس والتفاوض.
وأوضح أنه يأمل في تخفيف معاناة الناس وبعض المعتقلين وأسرهم والمتهمين بعدد من القضايا.
ولفت إلى أن فكرة المجموعة تعود إلى 8 شهور، بعد لقاء مع رئيس مجلس الشيوخ والنائب العام وأجهزة الأمن، خلال مناقشة أحد ملفات المجتمع المدني، "القبض على عدد من قيادات المبادرة المصرية للحقوق الشخصية".
وقال هناك واقع اليوم، وهو وجود نظام قوي مستمر، يجب أن نتعامل مع أجهزته، لمساعدة السجناء ومن خلفهم أسرهم التي تعاني.
ورفض التصريح بالأرقام الحقيقية لعدد السجناء، وقال: "نحن لسنا معنيين بالأرقام، نحن معنيون بكيفية تخفيف المعاناة عن المحبوسين احتياطياً على ذمة قضايا أو من صدرت ضدهم أحكام بالسجن".
وأشار إلى أن الصدام المباشر مع النظام لم يفده أو يفد غيره، وكان الطبيعي كرجل سياسة أن يفكر كيف يخلق قنوات معلنة.
التعامل مع ضغوط الخارج
وكان تعامل النظام مع ضغوط الخارج قد مر بعدد من المراحل:
1- مرحلة إرسال الوفود المدنية الشابة والمعروفة للتسويق له، فيما قضى وزير الخارجية الأسبق نبيل فهمي عاماً كاملاً في محاولة الترويج لشرعية الحرب على الإرهاب.
2- اصطحاب جيش جرّار من الإعلاميين والفنانين والسياسيين والشخصيات العامة في كل جولة خارجية للسيسي، من بينهم يوسف الحسيني عضو المبادرة.
3- المرحلة التي تلت التعديلات الدستورية والتي أطمأن النظام فيها إلى استمراريته، وعدم وجود مخاطر تتهدده، وفيها أرسل العشرات من الحقوقيين التابعين له للخارج في محاولة لتبييض وجهه أمام المنظمات الدولية، وفي مقدمتها مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة.
4- المرحلة الرابعة، فيما بعد بايدن، والتي استشعر فيها النظام أهمية الملف الحقوقي، مع استمرار تعرضه للضغوط، خاصة من البرلمان الأوروبي، وبدأ بترويجه للاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وما يتبعها من لجان وخطط وإجراءات، بالتزامن مع التعاقد مع لوبي خارجي لتحسين صورته لدى الإدارة الامريكية، مقابل 65 ألف دولار شهرياً، عبر شركة "برونشتاين حياة فاربر شريك".
فيما لا يمكن النظر إلى ملف إقدام نظام السيسي على شراء السلاح بشكل غير مسبوق، حتى باتت مصر ثالث أكبر مشتر للسلاح في العالم في عام 2018، بلا أي مبرر، وفي وقت تتزايد فيه الأزمة المالية في البلاد، والتي وصفها موقع ستراتفور الأمريكي بحمى الإنفاق على التسليح، إلا في سياق مقاومة الضغوط في ملف حقوق الإنسان، وشراء مواقف الدول الكبرى، وصناعة شراكات وتحالفات مقابل أجر.
لكن اللافت أن هذه هي المرة الثانية التي يلجأ فيها النظام إلى مجموعة مدنية، لتنفيذ مهمة قومية بشكل منظم، بعد أزمة كورونا التي قبل فيها الرئيس السيسي والقوات المسلحة، على حد سواء، البقاء في المقاعد الخلفية، وترك القيادة في أيدي رئيس الوزراء والوزراء المعنيين، بعد أن كادوا يواجهون فشلاً ذريعاً في ملف لا يقبل المخاطرة.
وبخلاف ضغوط الخارج التي تتزايد بشكل متصاعد، ضد ممارسات النظام، تستهدف على الدوام هتافات المحتجين العرب الرئيس المصري كوجه للقمع، وعلامة مسجلة للاستبداد الإقليمي والدولي، ما يسبب إحراجاً بالغاً له، حتى إن بصماته في الانقلاب التونسي، لم تحتَج وقتاً للتأكيد عليها.
مقاربات الوساطة
نجاح مجموعة الحوار الدولي يعتمد على فهم مقاربات الوساطة، وأنها عملية تطوعية وسرية يساعد خلالها طرف محايد (…) ثالث المتنازعين على حل للنزاع يقبل به الجميع.
بشرط تسوية النزاع باتفاق طوعي بدون إكراه.
وللوساطة عدد من الضوابط منها:
- جعل الأطراف تشعر بالارتياح.
- إعطاء فكرة عن كيفية سير العملية.
- تحديد القواعد الرئيسية، والخيارات الممكنة.
- تحديد الخيارات الأنسب للجميع.
وهي كلها نقاط لا تتوافر في مجموعة الحوار الدولي، إذ إن رئيسها نفسه تعرض للإقصاء المتعمد من البرلمان، بسبب طرح وجهات نظر- في مرحلة ما- تختلف مع وجهة نظر النظام.
رسائل الحوار المحذوف
كما أن تخوفات السادات من ردود الأفعال الأمنية على حواره مع مدى مصر، منتصف سبتمبر/أيلول الجاري، وطلبه من الموقع حذف الحوار، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك إدراكه لقوة آلة القمع السائدة، وفلسفة البطش التي تحكم النظام ومؤسساته، وهذا يطرح شكوكاً عميقة عما إذ كان يقوم بدوره المصطنع بإرادته أم رغماً عنه.
فقد اعترف السادات بقصد أو من دون قصد بوجود لجنة أمنية لا دخل للقضاء ولا النيابة فيها، تُقرر مصير السجناء، وبذلك حطّم أسطورة الاستقلالية التي يرددها النظام، ولا يصدقها أحد في الداخل والخارج من الأساس، كما أكد أنه لا أحد يستمع للخارجية ولا للجان العلاقات العامة مدفوعة الأجر.
لكن الشيء الإيجابي في هذا السياق أنه لم يعد هناك محاورون من الأساس، يتفاوض النظام والجيش معهم، ما يعني سرمدية الحالة المصرية، بدون أي مساحة لالتقاط الأنفاس. لولا فكرة الحوار الدولي والمبادرة والوساطة- وإن كانت مؤدلجة وغير حيادية- فهي تبقى مقبولة من الطرف الأضعف، الذي أُغلقت كل المنافذ أمامه.
وبينما ساد الاعتقاد بأن مجموعة الحوار الدولي تظل تحت السيطرة، وخط الأمان، ولا ترتبط بزمان، وتظل تبريراتها لمصالح وممارسات الطرف الأقوى مقولبة وجاهزة، فإن تصريحات السادات الأكثر جرأة أعطتها مساحة من المصداقية.
إذ اعترف برؤيته فتاة من الإسكندرية- مختفية قسرياً- في مقر الأمن الوطني بالقاهرة وأضاف: "كانوا مغمّيين عنيها وهي بتقول أنا مش عارفة أنا في سموحة ولا فين في الإسكندرية؟ صعبت عليّا!"
كما أكد أن وجود رامي شعث وزياد العليمي يمنع حلحلة وضع قضية "خلية الأمل"… وأن الإسلاميين غير مسموح بالحديث عنهم تماماً، وأن اعتقال المستثمرين مثل صفوان ثابت ونجله قرار فوقي يتجاوز قدرة الأجهزة.
قبل حواره المحذوف اعتقد البعض أن تصريحات رئيس مبادرة الحوار البراغماتية، تشبه ما عبر عنه الكاتب ديفيد إغناطيوس في مقاله بصحيفة واشنطن بوست، الذي رأى فيه أن إدارة بايدن تكافح من أجل التوفيق بين حقيقتين لا مفر منهما تجاه مصر، أولاهما أن مصر صديق وحليف مهم لأمريكا، والثانية أن لديها حكومة قمعية تنتهك حقوق الإنسان الأساسية.
مجرد تصريحات السادات- وإن حُذف بعضها بناءً على طلبه- وفهمه لما يجري خلف الكواليس توحي- ربما- بأنه إذا استطاعت مجموعة الحوار الدولي الموازنة بين هذه المعضلات، خاصة مع حاجة النظام لها، وبعد أن وصل قمعه إلى مستوى لا يمكن السكوت أو الدفاع عنه، ربما يكتب لها النجاح، ولو بشكل جزئي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.