لا يزال رجال ونساء الكيان المحتل وشيوخهم يتذكرون الثامن عشر من يناير/كانون الثاني عام 1991 حين استيقظوا على صوت سقوط ثمانية صواريخ سكود تم إطلاقها من غرب العراق لتسقط في ضواحي حيفا وشمال وجنوب تل أبيب، لتكون العراق أول دولة عربية تقصف عاصمة الكيان الغاصب منذ أن تأسس في أربعينيات القرن الماضي.
لكن تاريخ العراق في مناهضة الكيان المحتل لم يبدأ من هذا التاريخ، ولكي لا ينسى العراقيون، فهذه نبذة صغيرة عن تضحيات العراقيين في سبيل قضية الأمة الأولى مسرى رسولها وأولى قبلتيها وأرضها التي لن تفرط فيها من أجل ثلة باعت أو هانت.
منذ اللحظة الأولى للعدوان الصهيوني على فلسطين أرسل العراق قوة عسكرية، ولم يكتفِ بذلك بل فتح باب التطوع لعامة الشعب، ولم يخذل العراقيون وطنهم ولا أرضهم ولم يتقاعسوا عن تحرير مقدسات أمتهم، فأقبل المئات للتطوع والالتحاق بما سُمي في حينها (جيش الجهاد المقدس)، وهي قوة عسكرية تضم متطوعين عرباً من كل البلاد، لتروي دماء العراقيين الأرض المقدسة، ويتركوا شواهد بنوها بأجسادهم الباقية في قبورها، على أرض فلسطين، لتؤكد إخلاص هذا الشعب لأمته ومقدساتها، وفي كل مواجهة مع العدو الصهيوني، كان العراقيون حاضرين، ففي حرب 1967 تحرك العراقيون لنصرة إخوانهم في مصر وسوريا سواء بالجو لتخفيف الهجوم أو في البر بنقل العراق الفوج الأول من لواء المشاة الأول إلى مصر واستقبلهم الرئيس عبد الناصر، بينما تحرك اللواء الميكانيكي الثامن من اللواء المدرع 12 إلى الأردن.
وفي حرب أكتوبر 1973 شاركت القوات العراقية في النصر العربي على الاحتلال وكانت القوات العراقية هي القوة الثالثة بعد الجيش المصري والسوري، ولا تزال دماء العراقيين تروي أرض سيناء لتنبت أشجار الصمود ضد العدو الصهيوني، وظل العراق على موقفه رسمياً وشعبياً حتى خرج علينا من أربيل دعاة التطبيع ليثيروا غثيان كل مسلم وعربي حر غيور على مقدسات أمته.
مؤتمر التطبيع بدأ بكذبة وانتهى بكارثة
في أربيل اجتمع عدد من الشخصيات العراقية من الطائفتين السنية والشيعية في مؤتمر ليوم واحد انتهى بتلاوة بيانه الختامي مع توصيات تدعو إلى تطبيع العلاقات بين العراق والاحتلال الصهيوني، جهاراً نهاراً من غير خجل ولا وجل، ولعل الظرف أتاح لهم ذلك، فبعد مهرجان التطبيع للجميع الذي قادته الإمارات وجرت وراءها من يبتغون العزة عند تل أبيب، والطامحون لتثبيت أركان حكمهم، والطامعون في رفع عقوبات، أو جلب استثمارات.
ووفقاً للبيان الصادر عن تجمع أربيل، فإن ثلاث مئة ممن وصفوا أنفسهم بأعيان العراق ومشايخ عشائرها في بغداد، والموصل، والأنبار، وبابل، وصلاح الدين، وديالى، اجتمعوا في أربيل من أجل المطالبة بدخول العراق قيادة وشعباً في علاقات مع تل أبيب تحت مظلة ما يسمى الاتفاقية الإبراهيمية، لكن الغريب أن هؤلاء ادعوا أن ثوار تشرين كانوا ضمن من وقَّع على البيان ووافقوا على ما جاء فيه، وكأن ثوار تشرين الذين ضحوا بأرواحهم وحملوا إخوانهم شهداء في ساحات الحرية، يريدون أن يستبدلوا المحتل الإيراني وأذنابه، بالمحتل الصهيوني، وكلاهما سواء.
قد يبدو مستغرباً لدى الكثيرين أن يزج مع الدعوة إلى التطبيع، الدعوة إلى العراق الفيدرالي، الذي أصَّل له دستور الاحتلال، والظاهر أن من يدعو للتطبيع هو من يرضى بكل ما يأتي من الاحتلال، ويقبل الدنية من وطنه، سواء في دستوره أو اتفاقياته التي تدعو إلى التطبيع مع المحتل، لكن الناظر بعمق، يجد أن الكيان المحتل يدعو في كل بلد تنوعت فيه العرقيات أو الإثنيات أو الديانات والمذاهب إلى الفيدرالية، ولعل أيضاً حالة الانفصام التي يعيشها كاتب البيان الختامي للمؤتمر المزعوم خيلت له أن يتجرأ بأن يتخذ من الفيدرالية المطالب بها وسيلة لعراق موحد، وليأتين في ذلك بمثل، فالكل يعرف أن فكرة الفيدرالية ما دُسَّت إلا لتمزيق ما تبقى من العراق وإفقار مكونه الأكبر لو كانوا يفقهون.
ولأن المؤتمر من بدايته إلى نهايته كان كذبة سواء في الدعوة التي جاءت للشخصيات التي شاركت على غير ماهيته، أو التنظيم الذي أظهر ذمم من نظموه، أو بيانه الختامي الذي ذهب بعيداً عن هوى وهوية العراقيين، فإن أحدهم خرج وفضح من نظموه..
في رسالة صوتية تناقلها نشطاء غيورون على العراق وشرفه وقوميته وانتمائه للأمة الإسلامية أكد كاظم الجحيشي المعارض والمستشار القانوني للمعهد العراقي لدعم الفيدرالية والمقيم في أربيل، أن الدعوة التي جاءته لحضور مؤتمر عن الفيدرالية، ولما وصل إلى مكان انعقاد المؤتمر قيل له إن المؤتمر لاستعادة أموال "اليهود العراقيين" وهو ما دفع الرجل وغيره للخروج، وهو أيضاً ما لم يُقل لباقي من حضر، قبل أن يفاجأوا بالبيان الختامي الذي دعا إلى التطبيع، ليكشف بعدها من يقف وراء هذا المؤتمر ويدعمه.
إشادة متوقعة من تل أبيب بالمؤتمر
لم تفوّت تل أبيب الفرصة وخرج وزير خارجية الكيان المحتل يائير لابيد ليرحب، بالمؤتمر وما شمله من دعوة للتطبيع مع بلاده، واصفاً الحدث بأنه "يبعث على الأمل". هذا الأمل الذي أعرب رئيس وزرائه أنه يشعر بالخيبة منه بعد أن كان يأمل بتطبيع شعبي مع الدول التي وقعت الاتفاق "الإبراهيمي" في إطار زيارته للقاهرة مؤخراً، وكأن وسام الحردان ومن يقف وراءه في أبوظبي أرادوا رفع معنويات رئيس وزراء الكيان المحتل بينيت الذي يرى أن الاتفاق لم يؤتِ الثمار المرجوة، وهو الدور الذي آلت أبوظبي على نفسها أن تلعبه في إطار الشرق الأوسط الجديد الذي يتشكل بعد وصول بايدن للبيت الأبيض.
في حديثه لصحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية أكد الوزير أن الحدث لم يكن يدور في خلد أحد من قادة الكيان المحتل، وأن بلاده ستفعل كل ما بوسعها للتواصل مع أي شخص يحاول مد الجسور معه، وهو حلم أن تقييم تل أبيب علاقات مع أكبر دولة ذات أغلبية مسلمة تنضم إلى الاتفاق "الإبراهيمي".
وتناولت القناة 12 في الكيان المحتل الحدث واصفة إياه بأنه غير مسبوق مشيدة بكل من حضر المؤتمر ومسمية بعضهم بالاسم، وهي الطريقة التي يتخذها الإعلام العبري عادة لتوريط أي شخص حتى ولو بالخطأ تواصل معها أو مع قادة دولتها، وهو ما حدث مع أحد المتحدثين باسم طالبان منذ شهر، وفي السياق احتفى الإعلامي العبري حيمي بيريس، نجل رئيس الكيان المحتل الراحل شمعون بيريس، والذي كان ضيف شرف المؤتمر، لاسيما أن كلمته التي ألقاها بالعبرية تضمنت دعوة صريحة بأن يساهم "يهود" العراق في البناء العضوي للحكومة القادمة!
هل يقف الكاظمي وراء مؤتمر التطبيع؟
إن بدا المؤتمر على أنه تحرك شخصي من وسام الحردان أو من أحمد أبوريشة، إلا أن الشواهد تتحدث عن أن محاولات التطبيع بدأت قبل فترة من هذا المؤتمر، فقد كشف السياسي العراقي المقرب من الإدارة الأمريكية، مثال الآلوسي، عن تفاصيل المناقشات التي أجراها وفد حكومي عراقي في عام 2020 خلال جولة أوروبية لتفضي إلى تطبيع كامل بين بغداد وتل أبيب، وإن كانت المحادثات سرية في حينها فقد آن الأوان لإطلاق بالون اختبار لدخول مرحلة التنفيذ، لاسيما أن الأزمة المالية والأمنية التي يعيشها العراق تحتاج رسائل باتجاه معين يجد الكاظمي له فيه مكان.
لقد اختار من يقف وراء المؤتمر الشخص الصحيح، من وجهة نظره، للزج به في المقدمة ليتلقى الضربات، ولعل الاختيار الذي وقع على أحد المحسوبين على المكون السني في العراق، يعكس حالة من ارتضى من هذا المكون أن ينخرط في العملية السياسية التي شكلها الاحتلال الأمريكي، قبل أن يسلم البلاد على طبق من ذهب لطهران، ومن والاهم من أهل مذهبهم، فمن ارتضى أن يكون خادماً لطهران يستخدم استخداماً المرة الواحدة، يلقى به الآن حيث يجب أن يكون بعد الاستخدام، فلقد كان فأر التجارب في بالون اختبار التطبيع من المكون السنّي، حتى إذا ما ثار العراقيون ألقي به أمام مذكرة توقيف كما حدث مع منظمي المؤتمر.
إن الشرق الأوسط الجديد الذي يرسم خرائطه بايدن الآن، تظهر ملامحه شيئاً فشيئاً، فواشنطن التي أخذت قرارها بالانسحاب إلى الداخل ترى في الشرق الأوسط مساحة هدر طاقة في مقابل ما يتم جنيه من مكاسب، مع ذلك لن تترك أمريكا الشرق الأوسط من دون ضابط لإيقاعه، والمرشح في خريطة توزيع المهام لتقود المنطقة، هي تل أبيب، ما يمكن فهمه من هذه الخريطة وتلك الخطة، أن الكاظمي الذي يلعب على كل الحبال، ويأكل من كل الموائد، يبحث لنفسه عن مكان في الشرق الأوسط الذي يرسم، وقد هداه فهمه إلى أن تكون تل أبيب هي الوجهة، لكنه في نفس الوقت لا يستطيع أن يغضب طهران، فأوكل اختبار البالون إلى الحردان وأبو ريشة، على غرار تذكرة السينما التي احتفظ بها السادات يوم "ثورة" يوليو. تطبيع العراق مع الكيان المحتل ربما يرى النور قريباً، إذا ما نجح الكاظمي في تربيطاته التي بدأ في نسجها من أجل العودة إلى رئاسة الحكومة في ظل حالة الصراع على السلطة بين الكتل والأحزاب في الانتخابات القادمة، فما كان مؤتمر بغداد ورعاية فرنسا له ومن ورائها الإمارات إلا باباً ليدخل منه الكاظمي إلى نادي المطبعين، وهو ما تسعى إليه أمريكا التي ترى أن الكاظمي رغم فشله يمكن أن يكون له دور في تحجيم الميليشيات الموالية لإيران في العراق ومن ثم تحجيم النفوذ الإيراني.
وبين طموحات الكاظمي وأوهام أمريكا، يبقى الرهان على الشعب العراقي الحر الذي خرج في ثورة تشرين ليقدم حياته رخيصة للخلاص من الاحتلال الإيراني والأمريكي المزدوج، فلن يقبل أن يبيع بلاده لاحتلال صهيوني له عنده ثأر وأرض يسعى لأن يستردهما، فليحلم الكاظمي كما يشاء ولتتوهم تل أبيب ومن ورائها أمريكا كما تريد فإن شعب ثورة العشرين لن يقبل للاحتلال مكان في بلاده.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.