رسالة إلى منتحر..
عزيزي ديفيد قد مرّ على غيابك ثلاثة عشر عاماً
وأنا منذ يوم رحيلك في الثاني عشر من سبتمبر عام 2008 لا زلت أتساءل عن سبب انتحارك؟
لست الوحيد في اختيارك الأناني، كثير قد سبقوك، وكثيرون سوف يلحقون بك، لكنك كنت مختلفاً عنهم.
أنت لست إرنست همنغواي، لم تعانِ ويلات الحرب حتى تفقد القدرة على تمثيل الحياة.
لست مثله في شيء، ذلك الطفل الذي لم يكبر أبداً كما كانت تناديه أغنيس.
أنت أيضاً لست كأروى صالح، أنت لا تعرفها، هي من بلدي، ماتت ملقيةً بنفسها من الدور العاشر شأنها شأن أي إنسان خذله رفاق نضاله السياسي قبل أن تقتله رصاصة أعدائه، تشبه كثيراً زينب، أنت أيضاً لا تعرفها، ماتت معلقة في سقف منزلها كثُريّا فشلت في أن تضيء الحياة فاختارت أن تنير الموت.
لكن عزيزي ليس في الموت ضوء!
لمَ لمْ تفهم زينب ذلك؟ لا أعرف لماذا تركتنا.
أنت أيضاً لست كفرجينيا وولف وإن تشابهت رسالة نهايتكما، فرجينيا كانت مضطربة، يظهر ذلك جلياً في كتابتها، لم تكن مستقرة أبداً، كانت مضطربة دوماً كموجة في بحر هائج اختار أن يتكسر على صخر شط موحش كي يستريح.
أنت لست مثلهم في شيء، كنت مختلفاً عنهم كل الاختلاف، تملك ذلك الوميض الذي لا ينضب، ذلك الذي استطاع أن ينير عقلك لتسطر رائعتك في 1100 صفحة.
لست مشتت العقل ولا متلعثم اللسان، كنت دوماً طليقاً كصقر محلق في أعالي السماء، يعرف أي فريسة يقتنص وأيها يترك، كنت يا سيدي تمتلك موهبة سلسة سهلة تمكنك من ترويض أي فكرة، لم تكن كأمثال بعض الكُتاب، أولئك ممن امتلكوا ذوق القراء النابغين لكن عزّت موهبتهم في الكتابة فطحنوا بين حجري رحى الرغبة وعدم القدرة.
لم تكن يوماً تجادل الحرف أو تعارك الكلمة أو تستجدي الجُمل كي تزور ورقك، أعتقد أن الورق هو من كان يلهث وراءك كي يجمع بعضاً من كلماتك، أنا واثقة أنك قد كتبت في الهواء وفي الفراغ أكثر مما قد حُفظ على الورق.
لم يكن سرد الأفكار بلغة قوية أبداً مشكلة بالنسبة لك حتى نقول إنه قد أنهك فاخترت الرحيل عنا.
أعلم أنك قد ترد عليّ قائلاً إنك كنت تعتزل العالم كي تكتب لأن الكتابة شيء مجهد.
أعلم ذلك فقد سمعت مقولتك تلك في لقائك بـ(ديفيد ليبسكي).
وقتها اعتقدت أنك مثل أيمن العتوم لا تستطيع أن تجتمع بالعالم والكتابة في نفس اللحظة.
تقول زوجة أيمن إنها في إحدى رواياته اضطرت لترك المنزل حتى يتمكن من إتمام نصّه! بالمناسبة هو كاتب جيد لكن بالتأكيد ليس مثلك!
لا أحد مثلك حتى من نالوا شهرة قد تماثل أو تفوق شهرتك أمثال إليزابيث جيلبيرت (مرت بخلدي الآن).
كم أبغضها وكم أبغض تجربة حياتها البائسة تلك التي تحاول أن تزينها بالجمل وتسوّقها في الكتب لتنال إعجاب الآخرين.
في رأيي هي شخصية غريبة لا تستطيع أن تعيش عيشة تكافلية أو تعاونية حتى نتوقع أن تكون معطاءة في كتابتها.
زيجتها الأولى أنهتها لتبحث عن نفسها، فصلّت وأكلت وسافرت عاماً لتجد في نهاية المطاف نفسها ودينها ورجلها المنشود.
تتزوجه وتكتب فيه كتاباً ثم ما تلبث أن تملّ من التجربة لتهجره هاربة في حضن امرأة أخرى!
بديهي أن تتركه لأجل امرأة! لا يوجد مبرر مقنع للقراء بعد ما كتبته عن تجربتها معه! لا شيء قد يقنع روادها سوى أنها حولت ميولها الجنسي!
امرأة غريبة تعيش الحياة كأنها تكتبها.. وليس العكس، تكتب لأنها قد عاشت، امرأة غريبة وقودها الداخلي منبعث من مشاعر الغير لذا هي في ترحال دائماً تجاه ذلك الغير الذي قد يحترق ليضيئها ومتى خمد لهيبه انفضت عنه لآخَر يضيء طريقها.
ترى لمَ هي بكل هذه الأنانية وكل هذا التطفل؟ لمَ تبدو كطفل لزج ملتصق بأقدام الغير؟ لربما هي فعلاً كذلك لا تزال تلك الطفلة المتبناة، تلك التي نالت كل الحب الممنوح بشرط إسعاد العائلة التي تبنتها.
بالتأكيد لا تريد أن تجرب مرارة الترك مرة أخرى، لذا وعوضاً عن أن يتركها الناس متى ذبلت، كانت تتركهم هم متى باتوا غير مهمين لها. إنها لا تستطيع أن تتعامل مع جانب الأفول الإنساني، لربما كانت تلك مأساتها فعلاً لست واثقة! مثلها مثل ستيف جوبز، كان يعاني جراء تبنيه لكن الأخير لم يلوث أفكارنا بكتاب يشرح فيه كيف تترك ابنتك وتتبع شغفك! كلاهما كان معتلاً اجتماعياً وإن نجحا مجتمعياً.
مأساة الاعتلال الاجتماعي وعدم القدرة على المعيشة الإنسانية التكافلية ليست خاصة بالتبني وحده، وإنما للأسف تنسحب على كافة تجارب الطفولة التي ارتبط فيها حب الأهل للطفل بمقدار إسعاد الطفل لهم!
شَرطية غريبة ومسؤولية ليست في محلها أبداً، ففي الأصل الأطفال كائنات طفولية متطفلة. في البداية يمتصون دم الأم ومن ثمة لبنها وبعده جيب الأب وفي جميع الأحيان قلبيهما.
لا وجود للمسؤولية المشروطة في مرحلة الطفولة، ولا أعلم متى تولدت هذه الفكرة ومتى كان على الأطفال دون العاشرة أن يكونوا لطفاء رائعين جيدين غير مزعجين مدركين لمسؤوليتهم الأخلاقية والتعليمية! صدقني على الأطفال أن يكونوا متطفلين، ليصبحوا في مرحلة ما مسؤولين.
عزيزي فوستر أنت لم تكن معتلاً اجتماعياً مثلها، حتى في أشد مراحل اكتئابك.
كنت مسؤولاً عن مشاعرك، عن تصرفاتك مع الآخرين، أنا على ثقة تامة بقدرتك على أن تكون أباً رائعاً.
بالتأكيد لن تترك أبناءك الخمسة في ملجأ للأيتام كما فعل جان جاك روسو وتكتب في نفس الوقت كتاباً عن التربية!
لم تكن يوماً ازدواجياً في معاييرك، بل كنت صادقاً للغاية في كافة تصرفاتك.
لم يذكر أحدٌ يوماً أنك نطقت بجملة لا تعنيها أو حتى نظرت نظرة لا تكترث لتبعاتها.
شاب وسيم مثلك يملك مقعد تدريس بالجامعة حوله آلاف الفتيات ومع ذلك لم يغازل إحداهن! أمر غريب!
التزامك الأخلاقي في العلاقات الإنسانية كان واضحاً وجلياً.
قرأت الكثير مما قد كتبته لكني مغرمة بمحاضرتك (إنه ماء)، قد قرأتها عدداً لا أذكره من المرات، وعدت وشاهدتها مرتين على اليوتيوب.
لا أملُّ منها.
جميلة مثل باقي كتاباتك، كاملة من كافة الجوانب.
كتاباتك تشبهك، تشبه كمالك الذي تخشاه، حركة جسدك المنثية قليلة للأمام كأنك تعتذر عن طول قامتك، هروبك الدائم من الشهرة التي تستحقها، هوسك المستمر بالتواري عن الأنظار، كل هذا يخبر الجميع بأنك تعتذر للأقزام عن كمالك كي لا تجرح مشاعرهم!
ما ذنبك عزيزي إن كنت كاملاً وكنا نتوارى أمام ظلك! حق النجوم أن تظهر!
أعلم أنك لو كنت هنا الآن لبدأت في إعطائي محاضرة طويلة عن الفردية التي أورثتها لنا ما بعد الحداثة وكيف غذت الغرور الإنساني.
أعلم أنك كنت ستتحدث مطولاً حول هذه الفكرة، تسبر غورها وتلفّ جميع جوانبها بوشاح يمنع أي ناقد من نقدها.
كنت ستنهي حديثك ثم تلمس تلك الخرقة التي تحزم بها جبينك كما هي عادتك.
تساءلت مرة عن سبب ارتدائك لتلك الخرقة، فوجدت سبباً غريباً عجيباً أن تعرق جبهتك المفرط في بعض الأحيان كان يحول بينك وبين الكتابة لأن قطرات العرق تهبط على الورق وتبلله!
ملاحظة غريبة ومزعجة بالنسبة لي، سبب انزعاجي نابع من خوفي ألا يكون سبب مرضك المستمر هو الاكتئاب!
لا أعلم لمَ أشعر بذلك، أشعر بأنك كنت مريضاً باعتلال في الجهاز العصبي يعرف باسم
"paroxysmal sympathetic hyperactivity"!
تعتري جسد المريض نوبات من ارتفاع في ضغط الدم وزيادة في سرعة خفقان القلب ونوم غير سلس مليء بالكوابيس، وفي كثير من الأحيان مشاكل في الجهاز الهضمي تشبه القولون العصبي.
أتراك كنت مصاباً بالفعل بهذه المتلازمة وفي شكواك الأولى لطبيبك منحك تصنيف المكتئب؟
ومع تزايد الأعراض وعدم فاعلية الجلسات أخذت كل تلك الأدوية التي لم تكن ذات نفع لحالتك، لا زالت الكوابيس تزورك، لا زال التعرق يغرق رأسك، لا زال قلبك ينبض أكثر مما يجب، ولا زالت الحيرة والحزن يعتريان عقلك جراء كل ذلك.
كل أعراضك السابقة كما هي لم تتحسن، مضافٌ إليها الأعراض الجانبية لكافة مضادات الاكتئاب التي تناولتها.
لم تعد الأدوية مجدية.
لذا وضعوك على سرير، خدروك، وقاموا بصعقك كهربياً حتى تُشفى.
ولم تُشفَ.
ظل المرض ملازماً لك بأعراض أقوى من سابقتها، كنت وحيداً في كل ذلك، أردت كالمسكين أن تخرج من حفرة "فرط نشاط جهازك العصبي" فحفرت قبر الاكتئاب بيديك!
أتراك كنت أحد ضحايا ثقتنا العمياء بقدرة العلم على التفسير الصحيح للظواهر الطبية؟
كثيرون يعانون نتيجة سوء التشخيص الأوّلي لحالتهم، أغلب مرضى الذئبة الحمراء وداء لمان وكل مرضى التصلب العصبي وجميع مرضى "paroxysmal sympathetic hyperactivity" أمثالك لا يتم تشخيصهم تشخيصاً صحيحاً من أول مرة. أتُراك كنت أحد أولئك المساكين؟!
لا أعلم ولا أتمنى ذلك، لا أستطيع في الحقيقة تقبل أن يرحل -مَن أراه- أكثر رجال زماننا رجاحة جراء خطأ في التشخيص الطبي!
أياً كان سبب رحيلك فقد رحلت منتحراً معتقداً أنك بانتحارك قد امتلكت إرادة الخلاص!
أتراك سعيداً الآن؟!
لا أعلم لكني على ثقة بأنه لا إرادة حرة في الانتحار.
الانتحار باب وهمي للخلاص واعتراف ضمني بانتزاع الإرادة قصراً.
لا إرادة في الانتحار، بل على العكس، كل ما يعنيه الانتحار أنك قد سئمت فقدان إرادتك، تلك التي تميزك ككائن بشري عن باقي الخلق.
تلك التي أخرجت آدم من الجنة ولا زلنا كذرية شريدة لأب مطرود نحاول بملء إرادتنا أن نعيش معيشة الجنة السعيدة في الدنيا، وهي في الأصل بائسة أو نسعى لها في الآخرة إن كنا مؤمنين.
أعلم أنه لا مشكلة في أن أحدثك حديثاً دينياً فأنت من قلت سابقاً: "في عالم البالغين لا وجود للملحدين، كل منا له إيمانه".
يا لك من ذكي بائس ويا لنا من أغبياء بائسين من بعدك!
تباً لك لمَ قد رحلت؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.