بعد الإعلان ضمنياً عن تعليق الرئيس التونسي قيس سعيّد العمل بدستور البلاد، تصبح تونس مفتوحة على مواجهة مرتقبة بين قيس سعيّد من جهة والأحزاب السياسية والمنظمات التي عادت خلال الأيام الماضية إلى حركيّتها وتنسيق مواقفها والتكتل والاصطفاف الكلّي أو النوعي ضدّ سعيد – من جهة أخرى، شأنهم شأن جزء من الشارع كردة فعل لتلميحات الرئيس المُتتالية لتوجهه نحو تعليق العمل بالدستور تمهيداً لتعديله.
بعد أيام من تلميح الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى توجهه نحو تعليق العمل بدستور 14 يناير/كانون الثاني 2014 تمهيداً لتعديله مع مواصلة العمل بالتدابير الاستثنائية دون سقف زمني، أعلنت رئاسة الجمهورية في تونس الأربعاء أن سعيّد قرر مواصلة تعليق جميع اختصاصات البرلمان ورفع الحصانة البرلمانية عن أعضائه ووضع حد لكافة المنح (الأجور) والامتيازات المسندة لرئيس البرلمان راشد الغنوشي وكل النواب.
إلا أن الأهمّ في قرارات الرئيس التونسي قيس سعيّد التي أصدرها في شكل أمر رئاسي بالجريدة الرسمية، تكفُّله بالاختصاصات التشريعية للبرلمان عبر إصدار مراسيم، كما أصبح تشكيل الحكومة اختصاصاً حصرياً لرئيس الجمهورية، وصارت الحكومة مسؤولة أمامه بعد أن كانت مسؤولة أمام البرلمان وفق دستور 2014، بالإضافة إلى إلغاء جميع أحكام الدستور التي تتعارض مع التدابير الاستثنائية مع مواصلة العمل بتوطئة الدستور وبالباب الأول المتعلق بالمبادئ العامة والباب الثاني المتعلق بالحقوق والحريات.
لتكون آخر قرارات سعيد هي إعلانه أنه سيقوم بإعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية، من تعديل القانون الانتخابي ومرسوم الأحزاب والجمعيات، والاستعانة في ذلك بلجنة يتم تنظيمها بأمر رئاسي، ليضع الرئيس التونسي قيس سعيّد المسمار الأخير في نعش دعوات كل الأحزاب السياسية والمنظمات لتفادي تعليق العمل بالدستور واعتماد التشاركية والحوار في عملية الإصلاح السياسي التي تحتاجها البلاد، لتصبح تونس اليوم مفتوحة على كل السيناريوهات بما فيها الصدام في الشارع.
استباق وخروج للشارع
خطوة الرئيس التونسي قيس سعيّد التي قام بها مساء الأربعاء 22 سبتمبر/أيلول لا تمثل مُفاجأة أو صدمة في تونس، حيث مهّد لها سعيد ولمح بالذهاب إليها العديد من المرات، والتي كان آخرها الإثنين الماضي في خطاب ألقاه بمحافظة سيدي بوزيد التي اندلعت منها شرارة الثورة التونسية، وقبلها قال خلال جولة له بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة "نحترم الدستور لكن يمكن إدخال تعديلات على نصه (…) لا بد من إدخال تعديلات في إطار الدستور تستجيب لتطلعات الشعب.. الدساتير ليست أبدية ويمكن إدخال تعديلات عليها".
إثر تلك التلميحات المُتتالية لقيس سعيد إلى إمكانية الذهاب لتعديل الدستور وبطبيعة الحال تعليق العمل به، استنفرت كل الأحزاب السياسية والمنظمات في تونس وخاصة منها الاتحاد العام التونسي للشغل وانطلقت في تنسيق مواقفها استعداداً لمواجهة مرتقبة مع الرئيس التونسي قيس سعيّد الذي يدير ظهره للجميع ويرفض الاستماع إلى أي جهة مهما كانت، فيما اعتبرته الأحزاب والمنظمات توجهاً للانفراد بالسلطة عبر تعليق الدستور وإصدار تنظيم مؤقت للسلطات العمومية.
فطيلة الفترة التي تلت 25 يوليو/تموز الماضي، تاريخ إعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد عن إجراءات استثنائية، بتعليق نشاط وصلاحيات البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه وإقالة الحكومة، كان القصر الرئاسي بقرطاج محور العملية السياسية وقلب الأحداث في بلد يتجاوز فيه عدد الأحزاب السياسية المرخص لها الـ200 حزب، لكن خلال الأيام الماضية انطلقت الأحزاب السياسية والمنظمات والجمعيات في العودة إلى حركيّتها وتنسيق مواقفها في اتجاه معاكس لما يريد سعيّد الذهاب فيه.
إذ شهدت الأيام الاخيرة في تونس عقد اجتماعات مُشتركة بين أحزاب سياسية ومنظمات كانت في صفّ الرئيس التونسي لإصدار مواقف موحدة لأول مرة منذ 25 يوليو/تموز ضدّ توجه سعيد الذي أعلنه رسمياً، كما خرج المئات من أنصار العديد من الأحزاب السياسية والمنظمات يوم السبت الماضي للتظاهر في شارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة تونس ضدّ قرارات 25 يوليو/تموز التي وصفوها -أخيراً- بالانقلاب، وتعبيراً عن رفضهم القاطع لتعليق العمل بالدستور.
ورغم عدم تبني أي حزب سياسي رسمياً لتلك المظاهرات ضدّ الرئيس التونسي قيس سعيّد التي شهدها الشارع الرئيسي بالعاصمة تونس واقتصار الدعوة لها رسمياً عبر عدد من الجمعيات، فإن العديد من القيادات من أحزاب وتيارات سياسية مُناهضة لقرارات 25 يوليو/تموز شاركت فيها ومن أبرزها حزب حركة النهضة وقلب تونس وحراك تونس الإرادة الذي يتزعمه رئيس تونس السابق المنصف المرزوقي وائتلاف الكرامة الذي أصبحت قياداته مُلاحقة من طرف القضاء العسكري بعد 25 يوليو/تموز.
مواجهة مُرتقبة
إعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد ضمنياً عن تعليق العمل بالدستور وإصدار ما يُمكن تسميته بدستور صغير ينظم العلاقة بين السلطات وإسناد الصلاحيات التشريعية له حصراً خلال فترة زمنية لم يُحددها، سيمرّ بالعلاقة بين الرئيس التونسي من جهة والأحزاب السياسية والمنظمات من جهة أخرى إلى مواجهة يُمكن أن تتحول إلى صدام في الشارع كنتيجة لإدارة قيس سعيّد ظهره للجميع في تونس ورفضه الدعوات المتكررة لاعتماد التشاركية والحوار في "تصحيح المسار" الذي يتشبث سعيد باعتماده كمصطلح بديل عن لفظ "انقلاب".
فبعد إعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد عن قراراته 25 يوليو/تموز 2021، أعلنت العديد من الأحزاب السياسية والمركزية النقابية القوية في تونس أنها في صفه وتُساند توجهه نحو إصلاح مسار الثورة الذي ملأه الفساد، ولكن بمرور الوقت تحولت علاقة المساندة لقيس سعيد إلى مطالبته بإصدار خارطة طريق والإسراع بتشكيل حكومة، لتتطور تدريجياً بظهور مؤشرات نحو توجه سعيد للانفراد بالسلطة وتصبح علاقة خلاف من المرجح أن تتحول إلى مواجهة وصدام بعد قراراته الأخيرة.
لكن على ما يبدو فإن الرئيس التونسي قيس سعيّد قد أعدّ جيّداً للمواجهة المرتقبة مع كل الأحزاب والمنظمات في تونس حتى إن كانت في الشارع، فسعيّد استغلّ جيداً صورة الأحزاب المتردية لدى التونسيين والانتشار الرهيب للفساد وقام بتحميل كل الطبقة السياسية مسؤولية الأوضاع الصعبة ولم يتوانَ عن تعميم اتهاماته في كل خطاباته سواء بالفساد أو بالتخطيط لاغتياله لاصطفافه إلى جانب الشعب ضدّ من جوّع التونسيين، وغيرها من الاتهامات التي يشحن بها الشارع في كل خطاب أو كلمة يُلقيها.
لتقف البلاد اليوم على مفترق طرق خطير، فصَمْتُ الأحزاب السياسية والمنظمات على قرارات سعيد التي أعلنها الأربعاء وتعليقه العمل بدستور سنة 2014 بصفة مُنفردة أمر مُستبعد، ليكون المرجّح هو المواجهة بين سعيد والبقية، بكل الوسائل المُتاحة، بما فيها الصدام في الشارع الذي شهدت البلاد بعضاً من مشاهده خلال تجمعات متزامنة لمساندي قيس سعيّد من جهة، والرافضين لتوجهاته وقرارات 25 يوليو/تموز 2021 من جهة أخرى.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.