"دي حوادث ممكن تحصل في أي دولة ومش هتأثر في مصر ولا أمن مصر والتعويضات للمتوفين والمصابين".
بتلك الكلمات، على لسان المشير طنطاوي، تلقّى الشعب المصري صفعة أفاقته من المصيبة بما زاد عليها، فبعدما سمع بسقوط 72 ضحية في ستاد بورسعيد في مباراة الأهلي والمصري البورسعيدي صُعق بتلك الكلمات من صاحب الكلمة الأولى في البلاد، تلك الجمل لم تتجاوز الدقيقتين، ولكنها حفرت بالدم لتكتب في قلوب كل مصري قبل أن يشجع كرة القدم، تخيل أن تلك الكلمات تُلقى عن شخص تَعرِفه قُتل غدراً!.
ما سيأتي في رأسك الآن هو ما تشكّل في داخل الجميع، أن ذاك الشخص الذي يعد المسؤول الأول في البلاد- وقتها- مدانٌ ثبتت عليه التهمة السياسية قبل إثباتها بالأدلة الجنائية، ومهما حاولوا إثبات براءته ستظل دماً كذباً وُضع على قميص يوسف.
حاول بعدها أن يلقي بحباله وعصيه ليخيّل على الشعب ويمتص الغضب قبل الانفجار بإقالة المحافظ وإيقاف مدير الأمن، إجراءات يمكن أن تُتخذ في الدول الأوروبية بعد مراسم جنائزية لقِطة صُدمت في الشارع، أو حتى حادث سرقة ليس في أبواب أُوصدت ولُحمت ليكون قتلاً عمداً مع سبق الإصرار والترصّد، جيش ينسحب، وشرطةٌ تُفسح المجال، وإجراءات أمنية غير مسبوقة لتسهيل ذبح الفريسة، كان الأمر أشبه بمسرحية عرف الجميع أدواره فيها، ولكنها كانت مسرحية عرائس حُركت بالحبال، والمحرك "مفقود".
"المتهم غير مُدان، وغير متهم، ولا غبار عليه، حتى لو ثبتت إدانته".
وبدأت المحاكم وبدأ الجمهور في التحرك، الآلاف بدأوا من الجزيرة، ولكنها لم تكن كتلك التجمعات التي اعتادوا عليها، قبلها بيوم كانت أعدادهم أكثر من هذا باثنين وسبعين شخصاً، لم يكن هذا صاحب الظهر المحني بهذا الشكل قبل ساعات، كان صديقه عموداً فقرياً يرفع رأسه للسماء، فلما سقط هوت به الدنيا إلى سابع أرض.
الآخر كان رأسه يوشك أن يصطدم ببرج القاهرة، ولكن الآن أصبح جسده ملاصقاً لسواد الطريق.
غلت القلوب، وزاد الغضب حتى انفجروا في صوت واحد: "يا نجيب حقهم يا نموت زيهم"، "الشعب يريد إعدام المشير"، نُبِحت الأصوات لشهور وخرجوا بالآلاف في كل الشوارع لشهور، عطلوا البورصة والقطارات، حتى المترو لم يسلم من غضب أولياء الدم الذين لم يجدوا ما يُعزّيهم في مصابهم، ولم يتلقوا إلا وعوداً كاذبة ومحاكمات هزلية، ابتعد فيها العجوز عن الاتهامات رغم المطالب.
في 26 يناير/كانون الثاني، وبعد عشرة أشهر من المحاكمات حُكم بالإعدام على ثلاثة وعشرين شخصاً، أحسَّت الجماهير بالأمل، وعادت البسمة، هتف الجميع "في الجنة يا شهيد"، وظنَّ المسؤول الأول أنه هرب من المسؤولية، لكن سرعان ما جاءت الذكرى، وأُعيد الهتاف ليسمعه الجميع وينزل كالصاعقة ليرعبه: "الشعب يريد إعدام المشير".
في بورسعيد ضحايا شافوا الغدر قبل الممات
شافوا نظام خيّر ما بين حكمه والفوضى في البلاد
كان فاكر حكمه يوم هيخليه في أعلى مكان
والشعب الثوري يركع للعسكر زي زمان
هكذا خلّد رجال أولتراس أهلاوي أصدقاءهم، وحفروا في عقول الجميع تلك الأغنية التي حفظها كل مصري، واستُخدمت في كل محفل ثوري، وكأنها عذاب يُلاحق العجوز في كل مكان، حتى عندما ابتعد عن الشاشات كانت الأغنية لعنة تُذكّره بما قدَّم.
حتى عندما انفجرت شوارع لبنان انفجرت معها تلك الأغنية لتُشعل اللهيب في القلوب، وتلعن كل قاتل هارب وترفعه كرمز للقتلة.
وحتى رغم تناسي الجميع لدوره كمسؤول في وقت حدوث المجزرة ومسؤوليته عنها، ورغم ذلك تقليده النياشين واعتباره من الأبطال، لم ينسَ الأولتراس حقهم، فخرجوا مجدداً مرددين الغنوة المعتادة، مطالبين بإعدامه، فخرج المدير الفني للنادي ليعتذر للمشير نيابة عن الجماهير، فتعلن الجماهير موقفها البطولي من جديد.
"جمهور الأهلي لا يعتذر لقتلة" وأسفلها صورة لطنطاوي مع عبارة "مطلوب للعدالة".
فالدم لا يُنسى، ولا مجال للمسامحة، لكن المشير أصبح هائجاً فتبعه صبيانه يحبسون ويفتكون بكل مَن تُسوّل له نفسه الهتاف بلعنة المشير ومنع الجماهير حتى لو في رياضات الصالات إذا تصادف موعدها مع ذكرى المذبحة، ليحاولوا بذلك مسح تلك الذكرى من التاريخ، ولكن تَكتب الأقدار أن تتصادف الذكرى مع بطولة الطائرة للسيدات، فتدخل الجماهير رافعة "لن ننساكم، سنُخلد ذكراكم حتى نلقاكم".
"7 سنين وحقهم لسه مجاش"، "مهما الوقت فات إياك تنسى اللي فات"، ويدق ناقوس الرعب بصاعقة ظنوا أنهم أخمدوها، فتشعل في قلب المشير ما حاول تناسيه بعدما مُنعت من كل المناسبات، وظن أنهم نسوا ما بها، فيُقبض على المئات، وتُفتح القضايا والمحاكمات، ظانّين بهذا أنهم يحمونه من الدم المتراكم فوق نياشينه العسكرية.
"الفصل الأخير: فشلت التحصينات"
لم تُفلح التحصينات وحظر الكلام والغناء في أن تَحمي الذاتَ العسكريةَ من القَدَر الإلهي؛ إذ حضر موعده، فذلك لا يمكنك مواجهته بحبس ولا بقتل أيها العسكري.
فلا مشاركتك في أكتوبر، أو حملك اسم مناصب رفيعة في مصر، سيرفع عنك خصومتك يوم القيامة أمام أُسر هؤلاء وأصدقائهم، بل ربما كان حسابك في الدنيا لو حدث، الذي ظللت تهرب منه طوال حياتك، نفعاً لك وهوناً عليك مما ستواجهه هناك، فربما لم يُكتب لأهالي الشهداء أن يَروا عدل الدنيا فيك، ولكن لا ضير، فعدل الآخرة كافٍ، وسيعطيهم ما يريدونه وزيادة، لذلك لم يستطيعوا أن يكتفوا بكتم فرحتهم، ولكن تشفّت نفوسهم بذهابك لمن لا يُظلم عنده أحد.
أحسوا بأن دعاءهم الآن سيُسمع، فهذه المرة لا يترجون بشراً سيخاف منك إذا وُجهت لك أطراف أصابع الاتهام، وإنما سينضمون لتلك الطوابير لكل من سيخاصمك في دماء يُنتظر منك دفع ثمنها.
يقولون: "العسكرية شرف"، فالمسؤول العسكري الذي يخالف ذلك ويرتكب الجرائم يخاف من الذي سيُقال عنه بعد وفاته أكثر مما يخاف أن يراه في حياته "حفاظاً على شرفه"، ولكن لا تقلق، فقد تهتك شرفك بنفسك، فلا وفاتك كانت سبباً لتوقف سباب الناس، ولا كِبر سنك وشيبك كان يخفف عنك اللعنات.
يشبه الأمر ما حدث مع جماهير ليفربول، واحتفالها بوفاة العجوز الشريرة "تاتشر"، التي تستّرت على الشرطة البريطانية عندما قتلت 94 مشجعاً، فتلطخت يدها بالدماء، وعندما ماتت استقبلتها الجماهير بعبارات "ارقدي في العار"، وظهرت الفرحة في مدينة ليفربول وما جاورها من المدن؛ احتفالاً بعودة الحق.
حتى إن الاتحاد الإنجليزي رفض إقامة دقيقة حداد لها، وكتبت الجماهير: "دقيقة الحداد فترة طويلة جداً، فترة لا تستحقها الحديدية التي تنصهر في النار الآن".
كل هذا سيتبعك حتى لو تظاهرت جميع المؤسسات بتعزيتك، وكل المتملقين بالدعاء لك، فالجميع يعرف ما يحمله لك المظلومون في صدورهم، وكم من شخص استيقظ بخيرٍ اليوم بسببك، في عالمٍ أفضل من دونك.
وخلاصة هذا، أن يتعظ مَن قتل العشرين من صديقه قاتل الأربعة والسبعين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.