نشرت النيويورك تايمز، في 14 سبتمبر/أيلول الجاري، مقالاً مميزاً لتوماس فريدمان، وهو كبير المحللين المختصين بشؤون الشرق الأوسط في الصحيفة، بعنوان "هل أعدنا تشكيل سياسة الشرق الأوسط أم بدأنا في تقليدها؟"، يُجري فيه الكاتب مقارنة بين حالة الانقسام المأساوي التي وصلت إليها السياسة الداخلية في الولايات المتحدة من جهة، والانقسامات السياسية القبلية في الشرق الأوسط من جهة أخرى، ويبين كيف أصبحت عقلية الانقسام القبلي الرائجة في الشرق الأوسط، لا سيما بين قبيلة "السنّة" وقبيلة "الشيعة"، منتشرة في السياسة الداخلية للولايات المتحدة بين الـ"نحن" والـ"أنتم" التي تقسم مواطني نفس البلد عمودياً حول كل شيء، حتى حول أتفه الأمور، شارحاً كيف أنّ الاختلاف بالرأي في الديمقراطية يختلف مبدئياً عن الانقسام القبلي، إذ إنّ الانقسام القبلي يتأتى عنه عدم إمكانية التعاون للنهوض بالدولة، فيصبح الهدف، كما يقول اللبنانيون، قتل الناطور (أنتم، القبيلة الأخرى، المعسكر الآخر)، بدل أكل العنب (النهوض بالبلد).
لبنان بين الطائفية والقبَلية
لا يسعك، وأنت تقرأ المقال، إلا تقريبه مما يجري في لبنان، على ضوء الحالة التي وصل إليها الانقسام السياسي في هذا البلد، لا سيما بين قبيلة "الطبقة السياسية" بأحزابها وقواعدها الشعبية ومناصريها وصحفييها ومثقفيها، وبين قبيلة "الثورة" بمجتمعها المدني وتياراتها ومجموعاتها وقواعدها الشعبية ومناصريها وصحفييها ومثقفيها، انقسام حاد بين الـ"نحن" والـ"أنتم"، بين الموالاة للموالاة والمعارضة للمعارضة، على طريقة الفن للفن، أي من جهة أولى بين من يدفنون رؤوسهم بالرمال رافضين أن يروا الحالة الكارثية التي وصلنا إليها، أو أن يعترفوا بمسؤولية الطبقة السياسية بالتكافل والتضامن فيما بينها في إيصالنا إليها، وفي الجهة المقابلة أتباع منهج المعارضة غير البناءة الذين يعارضون أي خطوة تقدم عليها السلطة (كتشكيل حكومة)، دون أن يبحثوا موضوعياً في إيجابيات الخطوة (بالإضافة طبعاً إلى سلبياتها)، بل فقط من باب أنها خطوة أقدمت عليها القبيلة الأخرى، فيجب رفضها بشكل أتوماتيكي وكامل، معلين بذلك، بشكل أناني ومحدود، مصلحة قبيلتهم السياسية، على المصلحة اللبنانية العليا.
الحكومة وتطلعات المحكومين
كلّا، الحكومة الجديدة في لبنان ليست على مستوى تطلعات انتفاضة 17 تشرين 2019، وليست حكومة اختصاصيين من خارج الطبقة السياسية أو من غير المحسوبين عليها، وكثير من وزراء الحكومة، بمن فيهم رئيسها، ليسوا خارج الشبهات في ملفات الفساد، والحكومة ليست خالية من الثلث المعطل، والحكومة ليست حلاً للمشكلة الأساسية في البلد (سلاح حزب اللّه وهيمنته على الدولة وقرارها)، كلّا، لن نستيقظ غداً على دولار بـ١٥٠٠، ولا على بنزين ومازوت متوفرين بكثرة في محطات الوقود، ولا على كهربا ٢٤/٢٤، كلا وكلا وكلا، ولكن الواقعية والبراغماتية تقولان، بكل بساطة، إنّ لبنان بحكومة "أفضل الممكن"، أفضل من لبنان بلا حكومة. فبين خيارين سيّئين، يجب اختيار الأقل سوءاً، فالسياسة فن الواقع، وفن المعقول.
لبنان و"العوَز"
عندما يكون بلد كلبنان قد أصبح عملياً "على الأرض يا حكم"، أي في حالة "شحادة" وعوز، دون محروقات، ودون كهرباء، ودون دواء، ودون مستشفيات، مع ارتفاع جنوني في أسعار المواد الاستهلاكية الأولية، أصبح فيه لحم البقر من الكماليات وحليب الأطفال من ضروب الرفاهية، تماماً كأقساط المدارس التي أصبح الأهل لا يعرفون سبيلاً لتأمينها، تجتاحه طوابير الذل من شماله إلى جنوبه، أضحت الهجرة لأي أرض أخرى الحلم الأول الذي يراود كل مواطن فيه.
عندما يكون بلد على هذه الصورة الكارثية، لا يعود لدى هذا البلد لا القوة، ولا ترف رفض تشكيل حكومة، خصوصاً أنّ هذا البلد بأمس الحاجة للتفاوض مع المانحين -لا سيما مع صندوق النقد الدولي- الذي يشترطون عليه أول ما يشترطون تشكيل حكومة كي يقبلوا بالتفاوض معه، وخصوصاً عندما يكون الشعب ينتظر تشكيل هذه الحكومة منذ أكثر من 12 شهراً، بسبب الطبقة السياسية وخلافاتها على المحاصصة في السلطة.
حزب الله المنتصر منذ أمد بعيد
أما من يرفضون التشكيلة الحكومية الجديدة بشكل كلي من باب أنها تكرس انتصار حزب اللّه، وكأنهم يكتشفون فجأة أنّ حزب اللّه قد انتصر في لبنان، فلربما وجب تذكيرهم بأنّ حزب اللّه لم ينتصر اليوم في بلاد الأرز، أي فقط مع تشكيل هذه الحكومة، بل إنّ الحزب المذكور قد انتصر منذ زمن بعيد، منذ 2008.
حزب اللّه انتصر منذ قرّر وليد جنبلاط، على إثرها، الخروج من ١٤ آذار والذهاب إلى سوريا لطلب المغفرة من بشار الأسد في الـ٢٠٠٩، وإنّ الحزب انتصر منذ ذهب سعد الحريري -بناءً على أوامر سعودية حسب قراءتي الشخصية- إلى قصر المهاجرين، للتصالح، على دماء أبيه، مع قاتله.
وإنّ الحزب انتصر منذ قام الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، بعدها، بـ"بيع" الحريري و١٤ آذار للرئيس السوري بشار الأسد ولحزب اللّه وإيران بنهاية الـ٢٠١٠، وكان الاتفاق يتضمن أن يشكّل نجيب ميقاتي حكومة القمصان السود، بعد أن قطعت قوى 8 آذار (بقيادة حزب اللّه) تذكرة ذهاب دون عودة لسعد الحريري؛ وإنّ حزب اللّه انتصر منذ دخل إلى سوريا للمشاركة في المجازر بحق الشعب السوري ابتداءً من الـ٢٠١٣، بينما كانت ١٤ آذار بلبنان، لا سيما حكومة تمام سلام، عاجزة عن فعل أي شيء لردعه.
وإنّ الحزب انتصر فعلياً أكبر انتصار، منذ رضخ سمير جعجع، في بداية ٢٠١٦، وبعده سعد الحريري، في خريف نفس السنة، لإرادة حزب اللّه في إيصال مرشحه الأول (ميشال عون) لرئاسة الجمهورية، بعد تعطيل انتخاب الرئيس لأكثر من سنتين. وإنّ الحزب انتصر منذ قام سمير جعجع بصفقة اتفاق "معراب" لتقاسم الحصص السياسية مع التيار الوطني الحر ـ حليف الحزب، ومنذ قام الحريري بصفقة لتشكيل حكومة المحاصصة الفجة مع جبران باسيل، وإنّ الحزب انتصر أكبر انتصار منذ رضي سعد الحريري بقانون الانتخابات المسخ إرضاءً لحزب اللّه وحلفائه، وإنّ "حزب إيران" في لبنان انتصر منذ قرر سامي الجميل أن يصبح مجرد ناشط في المجتمع المدني، وأن يحوّل حزب الكتائب، الذي كان أكثر حزب قدّم شهداء من ضمن شخصيات ١٤ آذار في معركة الاستقلال الثاني منذ ٢٠٠٥، إلى ما يشبه منظمة غير حكومية (إن جي أو).
منذ ذلك الوقت، انتصر حزب اللّه في لبنان، وليس بتشكيل هذه الحكومة العتيدة. لبنان قد خسر أمام حزب اللّه منذ زمن، قبل هذه الحكومة بكثير، وهو أضحى وحيداً وحيداً، بسبب أخطاء قادته أولاً (وشعبه)، ولم يعد باستطاعته رفض تشكيل حكومة، حتى لو كان للـ"ممانعة" حصة "الأسد" فيها. فكيف يمكن تصديق من يبدو أنه استيقظ فجأة الآن من سباته العميق، بعد خراب البصرة؟ بعد كل تلك السنوات والأحداث التي راكمت سطوة حزب اللّه على البلد، وقرر اليوم القيام بالبطولات اللفظية في وجه حزب اللّه وهيمنته على لبنان؟ أنَا الغَريقُ (منذ 15 سنة) فَما خَوْفي منَ البَلَلِ (اليوم)!
أخطار لا خطر واحد
لبنان الكيان لا يواجه خطراً واحداً، أي فقط خطر الطبقة السياسية التي يسيطر عليها حزب اللّه، وارتهانها للخارج، بل يواجه خطرين: فبالإضافة إلى خطر الطبقة السياسية، وهو دون شك الأقوى، يواجه لبنان عدمية (نيهيليسم) غلاة الحراك وتيارات المجتمع المدني (جبهة الرفض للرفض)، من ديماغوجيي الحراك، وكبار شعبويّيه، ومتسلقيه، ومن لَفَّ لَفّهم، وهما خطران، على عكس ظاهر الأمور، متكاملان، ويغذيان بعضهما البعض، إذ إنّ عدمية الغلاة الذين يسيطرون على الحراك (أو "الثورة")، هي نزعة سلبية صافية، لا تبني وطناً، ولا تستطيع تقديم الحلول الواقعية والعملية، بل يمكنها فقط الرفض للرفض، والهدم للهدم، لا سيما من خلال خطابهم التهديمي والميئّس دائماً، وتفضيلهم رؤية لبنان ميتاً على رؤيتهم إمكانية نجاح -ولو بشكل مرحلي، جزئي، طفيف- الطبقة السياسية في محاولة إنعاشه. وبذلك هي نزعة لا تقل خطورة على لبنان من فساد الطبقة السياسية الحالية وارتهانها للخارج، جاعلة من هؤلاء العدميين أكثر القوى تعطيلاً وخطورة على لبنان – الكيان.
غلاة الحراك هؤلاء، الذين ينقصهم النضج السياسي والعقلانية، يتصرفون بكثير من المراهقة لا بل من الطفولية السياسية وقلة المسؤولية، لا يخجلون من وقوعهم في التناقضات الكبيرة، فهم أنفسهم الذين يطالبون ليل نهار بحكومة تكنوقراط في لبنان، ثم يتباكون عندما يسمعون بعض الوزراء يتكلمون بلغة التكنوقراط المحدودة، أي لغة الضفادع والحفاضات، هذا في حين أنّ المطلب الأساسي للشعوب الأوروبية مثلاً، هو التخلص من حكم التكنوقراط، لا سيما على مستوى المفوضية الأوروبية، لأنّ التكنوقراطية هي مقبرة السياسة والديمقراطية.
في النهاية..
بالمحصلة، فمن موقع المعارض (ولكن المعارضة البناءة) لها وللحزب المسيطر عليها، يمكن القول إنّ الحكومة العتيدة، رغم كل عللها وعلاتها، بادرة أمل، ولو كان أملاً ضعيفاً جداً، وفرصة للبنان، ولو كنا نبرع كلبنانيين في تفويت الفرص، أملٌ وفرصةٌ في عز الليل البهيم، وبعد انتظار طال لأكثر من ١٢ شهراً. فرجاء، لا يحرمنّ أحد، بفعل عقلية الانقسام القبلي في السياسة اللبنانية بين موالاة ومعارضة، الناسَ، من القليل القليل من هذا الأمل، ولا يستكثرنّ عليهم أحد ما ندر من الرجاء، لا سيما في هذه الأوضاع فوق الصعبة، ولا سيما عندما لا يكون لديه بديل واقعي وعملي.
يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.