الصراع الدائم بين الملك والكتابة

عربي بوست
تم النشر: 2021/09/21 الساعة 14:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/09/21 الساعة 14:52 بتوقيت غرينتش

"التاريخ ضمن الغنائم 

ويكتبه الكسبان"

  • الشاعر المصري مصطفى إبراهيم 

"التاريخ يكتبه المنتصر" جملة تنقش في الأذهان من الصغر.

كل انتصار تاريخي يسمح لصاحبه فقط بتأريخه وتأريخ حقبته على هامش الانتصار. يتحدث المنتصر عن ظروف وملابسات النصر الخاصة، ومراحل الإعداد والاستعداد له، وكذا الكواليس التي دارت في الغرف المغلقة ولا يعلمها إلا الله، والمنتصر. تخرج لنا رواية المنتصر وتاريخه كثوبٍ رائع، متناسق ومنطقي، حكايات فصولها تتكامل لتشكل رواية ملحمية، يسهل تحويلها لفيلم يلهب حماس الجماهير. لكن الرواية التي يمكن تداولها باعتبارها الحقيقة ستبقى كذلك حتی يأتي بعض الفضوليين المعنيين بالنبش في الذاكرة للبحث عن روايات أخرى كان من المفترض كتابتها.

الملك والكتابة

في مصر وعلی مدار عقود التأريخ والكتابة عن الأحداث السياسية الكبرى التي مرت على هذا البلد الكبير تبدو الثورات الثلاث الأخيرة هي الأحجيات المستغلقة على الفهم. هذا البلد الذي يكره كل حكامه ثوراته، ويرفضون أي ذكر لها، ويسعون للإشادة بأنفسهم فقط دون الإشادة بالشعب الذي دعم حركاتهم والذي لولاه ما تقلَّد أي رئيس مصري كرسيه الرئاسي.

في كتابه "الملك والكتابة" يستعرض الكاتب المصري "محمد توفيق" تاريخ الصحافة المصرية مع السلطة السياسية انطلاقاً من عام 1950 حتى 1999. خمسون عاماً من الشد والجذب، الكر والفر، والغلظة والحرية الهشة التي تمنحها السلطة للصحافة والإعلام.

راية الحرية

الحرية هي أن يكون لك الحق في قول ما تشاء، دون أي قيود، فيما عدا ذلك فكل التعريفات الأخرى عن الحرية باطلة. في السنوات الأولى من ثورة "يوليو 52″، منح كبار الصحفيين، طواعية أو كرهاً، سلطة الصحافة للقيادة السياسية.

في عام 1959، دعا كبار كُتاب مصر مثل محمد حسنين هيكل وإحسان عبدالقدوس وفتحي غانم وغيرهم إلى تدخل الدولة لتوجيه حرية الرأي، وفي الـ24 مايو/أيار عام 1960 صدر قرار تنظيم الصحافة والذي تم بموجبه نقل ملكية كُبری الصحف إلى الاتحاد القومي. ومن هنا، وضع "الأخ الأكبر" يده على كل ما يُكتب من الصحفيين ويقرؤه المصريون، لكي يقرر هو وحده ما يجب نشره أو حجبه!

القرارات التي أعقبت القانون سيئ السمعة معروفة للجميع، ومن هنا كانت بداية تأميم الصحافة، منذ ذلك العام بدأ الإعلام في مصر يلفظ أنفاسه الأخيرة.

قانون العيب: يد الرئيس المؤمن

مع مرور الزمن، كان يتم نقل الصحفيين وإقصاؤهم من المشهد الإعلامي إن اعتبروا "مشاغبين" أو كانوا على غير هوى السلطة، للقيام بوظائف أخرى كنوع من النفي عن المهنة أو الفصل نهائياً من الوظيفة الحكومية.
مع مرور الوقت أصبحت يد الرقيب غاشمة، وصارت مصر مسرحاً للإبداع في خلق وتطوير الممارسات القمعية في عصر جمال عبدالناصر. رحل ناصر، ووصل السادات الذي لم يتأخر في عرض ممارسات أجهزة عبدالناصر الأمنية على الشاشات في أعمال فنية تندد وتكشف سوءات تلك الفترة وما شهده المجتمع من قمع وقسوة وخلق لقوة غاشمة كـ"زوار الفجر". لكن السادات بدوره لم يتأخر عن قمع الحريات والاحتجاجات والبطش بمعارضيه كلما سنحت له الفرصة، بل إنه أول من سنَّ قانون "العيب"، النسخة البدائية من قوانين "قيم الأسرة المصرية" التي لا يعرف أحد ما هي حتی لا يمسها!

صدر قانون "العيب" في 15 مايو/أيار عام 1980 ونص على توقيع العقوبة على كل من يرتكب أفعالاً تنطوي على إنكار الشرائع السماوية أو تحريض النشء على الانحراف أو عدم الولاء للوطن! 

وما بين قانون "العيب" وبين تهمة المساس بقيم الأسرة المصرية لم يتغير الكثير،  نفس البطش وذات القوة الغاشمة لم تتغير رغم تغير الزمن. وبين رقيب متسلّط وكاتب يبحث عن أمل، لا يزال الصراع قائماً بين الملك والكتابة.

أكبر مجمع سجون

على غرار إنجازات الدولة المصرية خلال السنوات الماضية في عدة مجالات أعلن سيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي عن افتتاح أكبر مجمع للسجون خلال الفترة القادمة. يبدو الإعلان كأنه تنويه عن خطوة مهمة أو فارقة في حياتنا كمواطنين مصريين.

بدا تشديد الرئيس على أن مجمع السجون سيكون على غرار السجون الأمريكية، وكأنه محاولة لنفي حقيقة أن هذا الإعلان عن سجن في المقام الأول. صحيح أنه نوه عن أن السجناء في المجمع الجديد لن يمسهم أي انتهاك لحقوقهم الإنسانية؛ مما لا ينفي انتهاك حقوق الإنسان في المجتمع المصري خلال السنوات الماضية، في السجن وخارجه. 

في الوقت ذاته، لا يتأخر الرئيس السيسي في أي لقاء له عن التصريح بأن في مصر فكراً متطرفاً يحارب جهوده في النهوض بالوعي الجمعي، لكن لا يخفى على أحد أيضاً دعم الدولة لمؤسسة الأزهر بالملايين سنوياً؛ مما يُباعد بيننا وبين محاولات تمدين أو علمنة الدولة مسافة لا تقل عن المسافة بين المشرق والمغرب.

شهادة وفاة الدولة المصرية

منذ عدة أيام، صرح السيسي أن ثورة 25 يناير/كانون الثاني التي قام بها الشعب المصري كانت شهادة وفاة الدولة المصرية، أتساءل كيف يمكن للثورة التي قام بها المصريون وراح ضحيتها شهداؤنا في سبيل إزاحة نظام غاشم كنظام الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك أن تكون شهادة وفاة وهي التي لولاه ما حكم مصر!

الثورة في عين من ثاروا فقط- وهم كثر- هي المعجزة الوحيدة التي تستحق الإيمان، هي شهادة ميلاد الوطن في قلب كل مصري، كل من ثار لقهر الظلم هو مصري حقيقي حتى لو كان بلا جنسية. ثورة يناير/كانون الثاني التي لا يتأخر كل من يريد أن يناصر السلطة الحاكمة أن يلعنها هي الباقية في التاريخ، لأنها لم تنتهِ، ولن تنتهي، ولم تتم كتابتها ما دامت الحرب قائمة بين من يلعنونها وأنصارها. 

حرية: حرية

"نحترم التنوع، نحترم التعدد، نحترم الاختلاف. إذا أراد أحد أنه يتصور أن هو عنده تميز، عنده تمييز في قدراته الثقافية وعايز يفرضها على بقية المجتمعات أنا بقوله إن هو يعني، انتبه، إن ده يمكن يكون، ده مسار ديكتاتوري، ده مسار ديكتاتوري في إن أنت عايز تفرض عليّ مسارك الثقافي".

جاءت هذه الكلمات على لسان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي منذ عدة أيام، وتبدو الإشارة هنا لأمريكا التي تريد فرض مسارها الثقافي! أتساءل هل يمكن لبلد انتهك كل حقوق الإنسان في كل العالم أن يُنظر إلى بلد مثل مصرنا يتم فيه انتهاك حقوق الإنسان أيضاً؟

في الحقيقة يتم تضخيم وتفخيم المصطلحات كي لا يتسنى لكل الناس فهمها، ولكي يتم إقصاء عامة الناس عن الأحاديث السياسية أو الاجتماعية باعتبار أمور مثل هذه شأناً لا يفهمه المواطن المصري الذي لا يتأخر رجال السياسة أو رجال الإعلام عن الإشارة إليه بالبسيط بدلاً من الاعتراف بجهله أو نجاح محاولات تجهيله وتهميشه من قبل كل السلطات التي حكمت مصر حتى يتسنى لهم الحكم بلا معارضة. 

حقوق الإنسان بكل ما تمثله الكلمة من بساطة أو عمق أمر غائب عن هذا البلد بفعل فاعل تماماً كمدنية الدولة أو حرية المعتقد، لأن من يساهم في تجهيل المجتمع هو من يقذف لهم بسفاسف الأمور لينشغلوا بها.

وكما أشار الرئيس إلى أن هذا الوطن عانی لمدة تقترب من 90 سنة من محاولات محو الهوية والتجهيل، فإن أمراً كهذا لم يكُن سيحدث لولا الموافقة الأمنية والاتفاقيات التي سمحت لكيانات سياسية واجتماعية في التوغل أكثر لعمق المجتمع المصري.

هذه الكيانات التي تمنح صكوك الغفران وتصدر يومياً عشرات الفتاوی السطحية عن أي شيء غير مهم كي يتسلى الناس به وينشغلوا عنه، الكيانات هي التي تصدر شائعات الفتنة الطائفية في مصر في سنوات عديدة، وهي التي هددت بحرق مصر، وهي التي ساهمت في عمليات إرهابية، وهذه الكيانات أيضاً كانت ولا تزال تخرج لنا أفرادها من جامعات مصرية مدعومة من الحكومة لتنشر سمومها.

حينما نتحدث عن دولة مدنية يجب علينا أن نواجه أنفسنا بحقيقة أن ما حدث على مدار سنوات من التجهيل والإقصاء كان بفعل فاعل وأن كل ما تم بناؤه على باطل فهو باطل، وأن الأحاديث القديمة لم يعُد ممكنا لها أن تقود إلى حلول جديدة. كل ما تتم الإشارة إليه حول حرية المعتقد أو حرية الرأي هو كلام منمق يصلح للندوات واللقاءات، ولكن على أرض الواقع لا يوجد أي فعل يؤشر إلى إمكانية نهوض دولة مدنية حقيقية يمكن فيها أن تحمل البطاقة المصرية بيانات لا تشير إلی الديانة، أو معاملات يومية لا يعتمد أصحابها على التصنيف العنصري أو الجندري. ولا يمكن أن تتم الإشارة لصراع حقيقي قائم بين المؤسسات الدينية وبين المؤسسة الحاكمة دون أن يتم وضع حد لهذا الصراع الذي يلقى تأييداً بين مناصري الفريقين بلا جدوى؛ لأن أحدهم يستند إلى النصوص الدينية والآخر يستند إلى قوة غاشمة تبطش بأي مظهر من مظاهر المعارضة إلا المعارضة التي تفضلها.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سيد عبدالحميد
كاتب مقالات وقصص قصيرة
كاتب مقالات وقصص قصيرة
تحميل المزيد