لم ينسَ الأفغان جرائم حكومة محمد تراكي بحق النساء، ومن بعدها الحكومات الاشتراكية التي استظلت بمظلة القوات السوفييتية، فحظرت ارتداء الحجاب في الأماكن العامة والمؤسسات التعليمية وأماكن العمل والدوائر الحكومية، ومن تجرأت على تحدي قرارات الاشتراكيين كان مصيرها الاعتقال أو التصفية، وشهد بذلك من زاروا أفغانستان بعد انقلاب ثور عام 1978.
ودأب اشتراكيو العالم على اتهام الإمبريالية الغربية بالمزايدة على حقوق الأفغانيات، بينما كان لصور نزع الحجاب في شوارع كابول أثر كبير في الرأي العام الغربي والمسلم على حد سواء، بل إنها ألهبت مشاعر الشباب الغيور على شرف المسلمات وحرّضتهم على الالتحاق بصفوف المجاهدين الأفغان في حقبة الثمانينات.
وما إن سقط النظام الاشتراكي عام 1992 حتى طُويت مسألة انتهاكاته لحقوق المرأة الأفغانية باختيار لباسها وأسلوب حياتها، ووسط معمعة الحرب الأهلية تحول الغرب إلى ممارسة الضغوط على حكومة أحزاب المجاهدين باسم حرية المرأة.
ومراعاة لأوضاع النساء في ظروف أمنية صعبة أعفى قلب الدين حكمتيار النساء العاملات في مؤسسات الدولة من الالتحاق بمكاتبهن، مع استمرار صرف رواتبهن إلى أن تستقر الأوضاع الأمنية وينتهي احتمال تعرضهن للخطر.
حريات وقواعد
في خضم الصراع حول أفغانستان، ظهر العديد من الحركات والمنظمات المدعومة غربياً التي تهتم بالحريات العامة وشؤون المرأة، إحداها مجلس التفاهم "شوراي تفاهم"، وهي منظمة مجتمع مدني أسسها أساتذة جامعات ومثقفون عادوا من دول غربية مثل يوسف نورستاني الذي تقلد مناصب رفيعة في حكومتي حامد كرزاي وأشرف غني، ورسول أمين أول وزير للتعليم في حكومة كرزاي.
وبينما كانت حركة طالبان تتقدم باتجاه العاصمة كابول عام 1996، التقى مسؤولون في مجلس التفاهم بالقنصل العام الأمريكي في بيشاور، وكانت القنصل امرأة تبدو في أواخر الستينات من عمرها، وقد لجأوا إليها؛ أملاً في تمويل مشروعهم لدعم ثقافة الحريات في مواجهة فكر طالبان المحافظ.
وتحدث مسؤولو مجلس التفاهم بقلق للسيدة العجوز كما وصفوها عن خطر الفكر الطالباني على مستقبل الحريات وحقوق المرأة الأفغانية بشكل خاص، لكنها لم تأبه لقلقهم، وقالت إن حركة طالبان هي الخيار الأفضل لأفغانستان في الوقت الحالي، فمال نورستاني، وهو صاحب نكتة، على زملائه وقال لهم بلغة البشتو: لقد جئنا إلى هذه العجوز كي تعيننا على طالبان فوجدناها جدة لهم، وأثار ضحكهم الذي لم يتمكنوا من كتمه فضول القنصل، وطلبت إشراكها بالنكتة فكان لها ما أرادت، ثم أمرت بصرف 60 ألف دولار لدعم مشروعهم.
وفي السياق ذاته أخبرني صدّيق تشكري وزير الإعلام الأفغاني الأسبق، عن تفاصيل اجتماع روبين رافيل مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون جنوب آسيا مع أحمد شاه مسعود وزير الدفاع الأفغاني في صيف عام 1996، وقد طالب مسعود الولايات المتحدة بالضغط على باكستان لإجبارها على وقف زحف طالبان باتجاه العاصمة كابول.
لكن المبعوثة الأمريكية وضعت شرطين لاستخدام واشنطن نفوذها لدى حليفتها باكستان، الأول مساهمة الحكومة الائتلافية بنشر الانفتاح خاصة ما يتعلق بحريات بالمرأة مثل العمل والتعليم وغيرهما، والثاني إقامة قاعدتين عسكريتين أمريكيتين واحدة في الغرب بولاية هرات (قاعدة شِندند) وأخرى في الشرق في مدينة جلال آباد.
لم يتردد مسعود في قبول الشرط الأول، وقال إن حكمتيار اتخذ قرارات في هذا الاتجاه، لكنه كان صريحاً في رفض إقامة قاعدة عسكرية لقوات أجنبية في المنطقة التي يسيطر عليها في الغرب، كما أن حكمتيار لن يوافق على إقامتها في الشرق الذي كان يسيطر عليه.
وانتهى اجتماع "رافيل – مسعود" الذي عُقد في بلدة إسطالِف شمال كابول بعد أقل من أربعين دقيقة، رغم أن مدة الاجتماع المقررة كانت ساعة ونصف الساعة، وبعد مغادرة أفغانستان أدلت المبعوثة الأمريكية بتصريحات قالت فيها إن الولايات المتحدة لن تذرف الدموع على حكومة يقودها متطرفون.
ظواهر جديدة
لم يشعر الأفغان بوجود ثورة اجتماعية تنصف المرأة على مدى عقدين من الغزو الأمريكي الأطلسي لأفغانستان، ولم يتراجع الظلم المرتبط بالموروث الاجتماعي، إذ أفلَت من العقاب زعماء الحرب وعناصر القوات الأجنبية المتهمون بارتكاب جرائم بحق المرأة، وتصدر غلاف مجلة تايم الأمريكية صورة امرأة أفغانية قطع أنفها من قبل أقاربها، حتى إن منظمات حقوقية عالمية وصفت المرأة الأفغانية عام 2009 بأنها الأسوأ حالاً في العالم.
وما يعزز هذا الوصف انتشار ظاهرة الانتحار حرقاً من قبل النساء في العقدين الماضيين، وهي دخيلة على المجتمع الأفغاني، تضاف إلى ظاهرة ملاجئ النساء المضطهدات، والتي أصبحت تعج بقصص الاضطهاد وأنواعه المختلفة، واتهمت مسؤولات عن هذه الملاجئ القوات الأجنبية وزعماء الحرب وموظفي الهيئات الدولية بالمسؤولية عن جرائم الاغتصاب.
وتسببت حملات تثقيف المرأة من قبل المؤسسات الغربية بمزيد من المشاكل بدل حلها، ذلك أن تلقين المرأة بأنها غير ملزمة بغسيل وكيّ ملابس الزوج أو الأخ تسبب لها في عنف أسري لم تعرفه من قبل، وقد يودي بها الإحباط إلى الانتحار حرقاً، وهو ما يحمل رسالة انتقام.
وفي بلد لا تتجاوز نسبة تعليم المرأة فيه 20% ألزمت الدول المانحة الحكومة الأفغانية بحصة وظائف للنساء لا تقل عن 30%، فظهر الحشو النسوي في الدوائر الحكومية، وجعل المرأة عرضة للابتزاز، أقله تهديدها بالنقل بعيداً عن سكنها، لتقع بين لائمة المجتمع على خروجها للعمل وبين المسؤول المبتز بدعوى قلة الكفاءة.
حلول تقليدية
كان الفقر هو السمة العامة في شوارع كابول غداة سيطرت طالبان في عهدها الأول، وطلبت وزارة الشؤون الاجتماعية حينها من المشرّدات التوقف عن التسول والانضمام إلى برامجها التأهيلية، ومن تضبطها شرطة طالبان تتسول في الشوارع تنقلها إلى ملجأ ضم أكثر من 3000 امرأة، توفر لهن الوزارة الطعام والكساء.
وأقر خبراء اجتماعيون أفغان في عهد الانفتاح بنجاعة الحلول التي تبنتها طالبان للأزمة الاجتماعية دون مساعدة دولية، والمتمثلة بكثرة أرامل الحرب وانتشارهن في شوارع كابول، وذلك بتشجيع عناصرها على تعدد الزوجات من أرامل وتسهيل زواجهن.
ومع سيطرتها على العاصمة كابول منتصف أغسطس/آب 2021 الموافق لشهر أسد؛ وفق التأريخ الأفغاني (الهجري شمسي)، أخذت قضية المرأة في أفغانستان حيزاً كبيراً من الاهتمام العالمي.
والمثير في قضية تحرير المرأة أنها سبقت ظهور طالبان بوقت طويل وتسببت بالإطاحة بممالك وحكومات، واستعداها الغرب بعد الانقلاب الذي قاده الصحفي نور محمد تراقي على الرئيس سرداد محمد داوود في أبريل/نيسان عام 1978 ويطلق عليه الاشتراكيون الأفغان "انقلاب ثور".
أما المفارقة فتكمن في أن الحملة الغربية ضد انقلاب ثور الاشتراكي كانت نصرة لخيار المرأة في الحجاب والحملة اليوم ضد انقلاب أسد الطالباني رفضاً لاختيارها النقيض، والمؤكد أن المرأة الأفغانية في جبال الهندوكوش لا تدرك سبب كل هذه الزوابع حولها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.