أدى سقوط أفغانستان في يد طالبان إلى زلزال شُعِرَ به في مختلف أنحاء الخليج. التحالفات التي كانت قبل عام واحد فقط تبدو وكأنَّها خرسانية بدأت الآن في التصدع، حتى صار يُشعَر بالفراغ الناجم عن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في الرياض وأبوظبي وتل أبيب بنفس الحدة التي شُعِرَ بها في كابول.
العلامة الأوضح على اهتزاز الهياكل السياسية وتبدُّل الرحلات الإقليمية تتمثل في التعهُّدات والمبالغ الضخمة من المال، التي وَعَدَ بها القائد الفعلي للإمارات محمد بن زايد، تركيا، وهما بلدان في تنافس قوي على النفوذ الإقليمي.
لم تكن تركيا هي العلامة الوحيدة على التحول الواضح في السياسة الإماراتية، فبعد فترة قصيرة من لقائه الأخير مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، سافر طحنون بن زايد، شقيق ولي عهد الإمارات محمد بن زايد ومستشار الأمن الوطني، لإصلاح العلاقات مع قطر.
كانت الإمارات تحث السعودية قبل عام واحد فقط على عدم رفع الحصار عن قطر، لكنَّ هذه الزيارة الأخيرة اعتراف بأنَّ الحصار كان فشلاً ذريعاً، إذ برزت قطر باعتبارها أقوى شركاء الرئيس الأمريكي جو بايدن في الخليج، والشريك الذي اعتمد عليه الرئيس لإجلاء الأفغان والتواصل مع حركة طالبان.
ويا له من اختلاف عن بداية الحصار، حين كانت قطر تُصوَّر باعتبارها ملاذاً للإرهابيين والإسلاميين، وغرَّد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن موافقته على التحرك السعودي.
التعهد بمليارات
يتكتَّم أردوغان على نص محادثته الهاتفية الأخيرة مع محمد بن زايد، وقِلَّة موثوقة فقط تعلم ما تعهَّد به ولي العهد، لكن وفقاً لمصادري، عَرَضَ بن زايد على أردوغان استثمارات بأكثر من 10 مليارات دولار.
وعلى عكس الشق العسكري في حكومة السودان، أو الرئيس قيس سعيّد في تونس، لم يضطر أردوغان للانتظار طويلاً حتى تصل الأموال، إذ تفيد تقارير بأنَّ شركة الشحن Aramex التي تتخذ من دبي مقراً لها تخوض محادثات لشراء شركة الشحن التركية MNG Kargo.
توجد سرية كبيرة في أنقرة، لكنْ هناك شيء واحد واضح: الزخم لعملية إعادة الضبط هذه آتٍ من أبوظبي، وأردوغان حذر، ومؤسسة السياسة الخارجية التركية متشككة، ولدى كليهما سبب وجيه لتوخي الحذر.
فوفقاً لوزير لخارجية التركي مولود تشاوويش أوغلو، هذه هي الدولة التي أنفقت 3 مليارات دولار لمحاولة الإطاحة بأردوغان، في 15 يوليو/تموز 2016، (وكادت تنجح في ذلك). لم يُسمِّ تشاوويش أوغلو الإمارات، لكن كان واضحاً أنَّه يشير إليها حين ذكر "بلداً مسلماً".
والدولة نفسها تمول مراكز أبحاث المحافظين الجدد في واشنطن، التي تهاجم أردوغان وتتهمه بعدم قدرته على إنقاذ اقتصاد تركيا. وهي الدولة التي تتنافس مع تركيا على النفوذ في سوريا واليمن وليبيا ومنطقة القرن الإفريقي ومصر وتونس. وكانت العقل المدبر، والمموّل، وراء الثورة المضادة التي أطاحت بالرئيس المصري الراحل محمد مرسي، وقد حاولت مراراً إعادة ترتيب الأوضاع في تونس والسودان واليمن، بما يخدم أجندتها ويحقق مصالحها. قدَّمت الطائرات الإماراتية في مرحلة ما الغطاء الجوي لمحاولة اللواء الليبي المنشق خليفة حفتر غير المدروسة للسيطرة على طرابلس.
وأنشأت أيضاً جيوشاً من "الذباب الإلكتروني" لتوجيه الرأي العام عبر وسائل التواصل الاجتماعي بما يفيدها.
باختصار، لقد أدَّت التدخلات الإماراتية خارج الخليج إلى إحداث فوضى في أرجاء الشرق الأوسط.
ولطالما كانت تركيا على النقيض من الإمارات وأجندتها.
فلماذا إذاً قد يسعى فهدٌ يُكرِّس نفسه لملاحقة الإسلام السياسي والقضاء عليه إلى تغيير مواقفه؟ وهذا سؤال تصعب الإجابة عنه.
هذه ليست المحاولة الأولى للتصالح، إذ قدمت الإمارات عرضاً شبيهاً لأنقرة حين اعتقدت أنَّ هيلاري كلينتون ستصبح رئيسة للولايات المتحدة. لكن حين فاز ترامب، جرى سحب العرض على الفور. إنَّها البراغماتية، وليس التغيّر الجذري في المواقف، هو ما يقف وراء التغيُّر السريع الأخير في سياسة أبوظبي الخارجية، والمتشككون في أنقرة مُحِقون في توخي الحذر.
مع ذلك، يمكن أن يستمر حدوث الأمر، ففيض الإشارات الذي يخرج من أبوظبي تجاه أردوغان وتركيا يحدث معظمه في الملتقيات الخاصة، والرسالة ثابتة، حتى لو كنتم لا تصدقونها.
إعادة التقييم الاستراتيجي
ووفقاً لأشخاص مطلعين على هذه المحادثات، يقول كبار المسؤولين الإماراتيين إنَّهم يُجرون "إعادة تقييم استراتيجية" للسياسة الخارجية.
يبدأ الأمر ببايدن، إذ لاحظت الإمارات سِمتين لتغير علاقتها مع واشنطن منذ وصول إدارته إلى السلطة، كانت الأولى رسالة ثابتة من الإدارة الجديدة لـ"تهدئة" التوترات في الشرق الأوسط، وكانت الثانية هي عدم القدرة على التنبؤ بالسياسة الخارجية الأمريكية.
وكان ذلك بالتأكيد واضحاً بالفعل في عهد ترامب، حين رفض قصف طهران بعدما أرسلت إيران ووكلاؤها العراقيون طائرات دون طيار مسلحة لتعطيل منشأتي نفط سعوديتين، ما أدى إلى تقليص إنتاج النفط بمقدار النصف مؤقتاً. وإذا ما كانت السعودية والإمارات شعرتا في أي وقت من الأوقات بأنَّهما غير محميتين بالمظلة العسكرية الأمريكية، فذلك الوقت كان آنذاك.
ويقولون إنَّهم يُجرون إلى جانب ذلك تقييماً واقعياً لما حققته الإمارات فعلاً. لقد أدت تدخلاتها فعلاً إلى هزيمة جماعة الإخوان المسلمين مرة أخرى باعتبارها قوة سياسية في مصر وتونس واليمن وسوريا وجزئياً في ليبيا، لكنَّ ثمن الجهاد الإماراتي هائل!
فثلاثة من هذه البلدان في حالة خراب، والأخريان على وشك الإفلاس، فماذا جنى محمد بن زايد لقاء مليارات الدولارات التي استثمرها في الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي؟
يبدو إذاً أنَّ السياسة الجديدة هي نشر النفوذ من خلال التعاون الاقتصادي، بدلاً من التدخل العسكري والتنافس السياسي.
الصدع السعودي – الإماراتي
لا يقول الإماراتيون ذلك، لكن عند سؤالهم، يتجلى فتور في علاقتهم مع السعودية أيضاً. قال أحد المبعوثين إنَّ الإمارات أجَّلت الانسحاب من اليمن لمدة عام للسماح للسعودية بإنهاء الحرب مع الحوثيين، لكن من الواضح أنَّ اليمن نقطة حساسة بين الحليفَين العسكريين.
أعلنت السعودية، مؤخراً، سلسلة من الخطوات لإضعاف أبوظبي، آخرها سحب قناة العربية والشركة الإعلامية الأم MBC من دبي. وضيَّقت على السلع المُعفاة من الضرائب القادمة من إحدى المناطق الإماراتية الحرة، فضلاً عن الإصرار على أن تقيم الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات مقرها الرئيسي في الرياض بدلاً من دبي. وهناك الكثير من التنافس والتصدع بين الأشقاء الخليجيين هذه الأيام.
وفي غضون ذلك، بدأ المعلقون السياسيون الإماراتيون المصرَّح لهم بالحديث عن الشؤون السياسية للبلاد في الإشارة علناً إلى مجموعة مختلفة من الأولويات الإقليمية. ففي تغريدة نشرها على موقع تويتر، كتب أستاذ العلوم السياسية عبد الخالق عبد الله أن الرسالة الرئيسية من واشنطن تقول: "إن أمريكا لن تدافع عن الخليج ولن تخوض معركة من أجل نفط الخليج العربي من الآن فصاعداً"، ومن ثَم، فإن "دول الخليج العربي أمام مفترق طرق: كيف يجب أن تتكيف مع مرحلة خليج ما بعد أمريكا".
بعدها بأيام قليلة، أجاب عبد الله بنفسه عن سؤاله، وكتب في تغريدة أخرى: "هذه هي الدول التي قررت #الإمارات إعطاءها الأولوية الاستثمارية وتطوير العلاقات التجارية معها خلال الـ10 سنوات المقبلة، الهند وإندونيسيا وتركيا وكينيا وكوريا الجنوبية وإثيوبيا وإسرائيل وبريطانيا".
ويُلاحظ بعض الغيابات اللافتة من هذه القائمة، على رأسها: السعودية ومصر، اللتان كانتا من أوثق حلفاء الإمارات عام 2013.
اتفاقات إبراهام تفقد بريقها
أبوظبي ليست العاصمة الوحيدة الموقعة على اتفاقات إبراهام التي كان هدفها إعادة الترويج لكتلة سياسية موالية للولايات المتحدة في الخليج. لكن بعد مرور عام على توقيع الاتفاقيات في واشنطن، ها هي اتفاقات إبراهام تفقد بريقها. قبل عام، كانت تبدو الأمور واعدة للموقّعين عليها، كانت تزاوجاً بين العقول والمقدرات المادية الهائلة، بين القوة العسكرية والتفوق التكنولوجي النوعي لإسرائيل بدولارات الخليج.
كانت طريقة لتجاوز القضية الفلسطينية، والتخلص مما رأوه أشياء عبثية ومضيعة للوقت مثل المفاوضات أو الانتخابات أو التفويضات الشعبية. كانت الاتفاقات حلاً مفروضاً من أعلى، أمراً واقعاً يتعين على الجماهير العربية أن تتعايش معه. لكن هذه الاتفاقيات، حالها حال مشروع المدن العملاقة في السعودية، بُنيت على أساسٍ قد ينهار بها في أي وقت.
انطوت الاتفاقات على خللين أساسيين: أولاً، أنها لم تستند إلى دول، بل إلى قادة أفراد، وحتى هؤلاء اجتمعوا سراً في البداية كما اجتمعت الشخصيات المتحكمة فيها. ومن ثَم، عندما أُزيح الفاعلون الرئيسيون من الصورة -ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو- فقد المشروع نفسه رُعاته وقوته الدافعة.
أما الخلل الآخر في تلك الاتفاقات، أنها كانت تتعلق في الأساس بالعلاقة بين دول المنطقة والولايات المتحدة. ولم يكن لها شأن ولا تطرقت إلى المشكلات الأساسية للعلاقات بين الفاعلين الإقليميين المحوريين أنفسهم.
كان دافع الإمارات للتودد إلى إسرائيل هو تعزيز علاقتها بواشنطن. ودائماً ما كان الاعتراف بإسرائيل وسيلة لبلوغ غرضٍ آخر وليس غاية في حد ذاتها.
أما بالنسبة إلى إسرائيل، فكانت اتفاقيات إبراهام تدور حول تعزيز أمنها عن طريق زيادة نفوذها الإقليمي. وقد أخطأت خطأً فادحاً في قراءتها للنيَّات العربية من تلك الاتفاقات، وتوهمت أن التطبيع شبكة أمان عسكرية ودبلوماسية لكيانها المستمر في المنطقة.
وقد لاحظ الكاتب الإسرائيلي تسفي باريل ذلك، وكتب في صحيفة Haaretz مؤخراً: "إن التحولات شديدة التنوع والتعقيد في العلاقات الدولية تقتضي من إسرائيل إعادة فحص مكانتها في التحالف الذي شاركت في تشكيله حديثاً. والمقصد أن الفكرة القائمة على أن هناك كتلة ما مؤيدة للولايات المتحدة توفر لإسرائيل شبكةَ أمان عسكرية ودبلوماسية وتعمل إلى جانبها في تحالف غير رسمي ضد إيران، هذه الفكرة بدأت في الانهيار".
إعادة تشكيل الإقليم
لم تكتفِ الولايات المتحدة باستعمال سبل الترغيب والترهيب لإكراه دول مثل السودان على الانضمام إلى الاتفاقيات، نظير إزالتها من قائمة الدول الإرهابية، بل جعلت الانضمام إلى الاتفاقيات شرطاً أساسياً لحدوث ذلك.
الخلاصة أن الإماراتيين، الذين عادة ما يسارعون إلى انتهاز الفرص، بدأوا في التحرك وعينهم على التشكُّل المستقبلي لعالم ما بعد النفط. أما ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، فلم يتصالح بعدُ مع فكرة الغياب العسكري الأمريكي عن المنطقة. لكن ربما يبدأ في التصالح معها الآن بعد أن سحب بايدن للتو منظومات صواريخ باتريوت الدفاعية من المملكة ورفعَ حظر النشر الذي فرضه اثنان من أسلافه الرؤساء على الوثائق السرية التي يُزعم أنها تكشف عن صلات للحكومة السعودية باثنين من خاطفي الطائرات في أحداث 11 سبتمبر/أيلول.
على خلاف محمد بن زايد، ما زال محمد بن سلمان يحمل ضغائن شخصية. فهو لم يستطِع إلى الآن أن يغفر للرئيس التركي أردوغان دورَه في إبقاء قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي على صدارة جدول الأعمال في واشنطن. ألحق أردوغان ضرراً لا يُمحى بسمعةِ محمد بن سلمان الدولية، ما جعل تكراره لرحلته السابقة إلى لندن والولايات المتحدة أمراً مستحيلاً على الملك السعودي المستقبلي.
لا تزال نفسية محمد بن سلمان -مع كل ما يبديه ظاهره الحداثي من هيئة المصلِح- متجذرةً في ماضيه البدوي. فولي العهد وملك المستقبل يعتبر شعبه أحد أملاكه، وهو راعيهم وسيدهم. والتعامل مع الدول الأخرى لا يكون إلا عن طريقه وحده. فهو من يقرر إذا كانت مملكته ستعترف بإسرائيل أم لا، أو ما إذا كان، كما هو واقع الآن، يمكنه اللجوء إلى إسرائيل لتزويده بأنظمة دفاع صاروخي.
ومع أن كل هذه التحركات هشة وقابلة للنقض بطبيعتها، لأنها في واقع الأمر تابعة لأحداث خارج المنطقة وليس داخلها، فقد يكون في نهاية هذا النفق المظلم ضوءٌ ما ينطوي بالفعل على انعطافة حقيقية. فإذا استطاع الفاعلون الإقليميون أن يُؤسسوا لعلاقة تعاون بين بعضهم -وهذا غاية المطلب- فلن يعود مدار الاستقرار متمحوراً حول أهواء مجموعة صغيرة من القادة المستبدين.
إن علاقات كهذه بين القوى الإقليمية جديرة بأن تكون ممثلة لمصالح الدول، وليس المصالح الشخصية لقادتها. وهذا سيكون تقدماً في حد ذاته، ولا شك في أن هذا متوقف على ما إذا كان أي من تلك الخطوات سيؤتي ثماره حقاً.
ينبغي أن يكون قرار محمد بن زايد بإعادة تقييم سياسته الخارجية حقيقياً وليس جنوحاً مؤقتاً. إنه محق في إعادة تقييم سياسته الخارجية. فقد كانت سياسة كارثية، ومضيعة فادحة لأمواله. وقد أضعفت دولاً كانت قوية في يوم من الأيام، مثل مصر، وتسببت حروبها في موجات تدفق هائلة للاجئين.
لقد استغرق إدراكه للأمر ثماني سنوات طويلة. ولكن إذا كان حقاً أدركه، فإن هذا الإدراك ينطوي على فرصة حقيقية لإعادة تشكيل شرق أوسط بدون الولايات المتحدة الأمريكية.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.