إذا كان لنا أن نبدأ هذا المقال بتحرير المصطلحات، فهو حق القارئ من أجل الوصول للمعنى الذي أراده الكاتب، في ظل التعريفات المتعددة التي اعتمدت في نحتها على مدارس فكرية مختلفة، قد تصل في كثير من الأحيان لنفس المفهوم، وقد تتباعد في بعضها، لذا فليسمح لي القارئ في السطور القليلة القادمة وضع بعض المفاهيم التي رسخت في ضمير الكاتب قبل الدخول في صلب الموضوع الذي يُوجبه الوقت وتُحتّمه الظروف، فمَن قال إنَّ المنتصر يكتب التاريخ صَدَق، وأزيد أن المنتصر أيضاً يحاول تشكيل الهوية، ويستخدم في ذلك خدعاً عدة، أهمها على الإطلاق تغييب الوعي لتمرير المفاهيم التي يريد زرعها، ولما كان المتغلِّب يملك أدوات تشكيل الوعي، التي من أهمها التعليم والإعلام، فإن كثيراً من المتغلبين نجحوا مرحلياً، لكن الحق أحق أن يُتَّبع.
الثورة
في العلوم السياسية تُعرف الثورة على أنها خروج مجموعة من الجماعة الوطنية عن الوضع الذي يعيشه المجتمع؛ رغبةً في تغييره، مدفوعة في ذلك بعدم الرضا العام، ومن ثم التطلع إلى حياة أفضل، وليس بالضرورة أن تكون مطالب الثورة اقتصادية، وإن كان الأغلب الأعم في ظاهر الثورات أن المطالب الجماهيرية تُصنّف على أنها مطالب معيشية، غير أن المدقق في تلك المطالب يجدها في النهاية موصولة بمظالم اجتماعية أو أمنية مربوطة بحقوق أُهدرت أو ثوابت هُدمت.
وتتخذ الثورة أحد شكلين، بحسب الفيلسوف الإغريقي أرسطو، إما التغيير الكامل من دستور لآخر، أو التعديل على دستور موجود، ما يعني وضع ضمانات للمجتمع تحفظ عليه حقوقه وتؤمّنه من إعادة تلك المظالم، وقد تُحقق الثورات أهدافها بإزالة النظام وكتابة عقد اجتماعي جديد، أو قد تأخذ بعض الوقت يمتد بحسب قوة الثورة ووعي من يديرون المشهد فيها، مع تلافي أخطاء من سبقهم في الثورات التي سبقتهم.
إذا كان التاريخ يؤرخ لأول ثورة شهدها البشر كانت في مصر في عهد الملك بيبي الثاني بعد المجاعة العظيمة التي شهدتها البلاد في عصره، إلا أن الثورة الحقيقية التي غيرت العالم ولا تزال كانت تلك الثورة التي قادها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالدين الإسلامي كان ولا يزال بمثابة ثورة حقيقية بكل معانيها غير المجتمع الصغير في مكة قبل أن يمتد إلى الجزيرة، ليشتد عوده بتغير الإقليم، ثم العالم القديم الذي عرفه البشر في حينها، فمفهوم الثورة مربوط في ضمير الكاتب بهذا الدين وما أحدثه من تغيير شامل، وما خطه من دستور يضمن للبشرية جمعاء القدر الأمثل لحياة كريمة من غير حيف ولا ظلم.
الهوية
لا أختلف كثيراً مع من يرى أن الهوية مربوطة بحبل سري مع الأيديولوجية، بل أرى أن الهوية هي مَن تُشكّل الأيديولوجية، حتى مع تنوع تلك الأيديولوجيات في زمن تراجعت فيه محددات الهوية، إثر حالة التغريب الذي عاشه العرب والمسلمون في زمن ضعف الدولة الإسلامية، وانفتاح الدولة الإقليمية على الغرب من غير معايير منضبطة ولا محددات مرسومة، يضاف إلى ذلك حالة الإبهار التي نقلها من نقل من الغرب المتحضر وسعي الغرب لتثبيت هذه النظرة، لكن فيما سبق تلك الحقبة كانت الهوية العربية الإسلامية في أطرها العامة، محددة واضحة مترابطة، تُشكل شخصية المواطن في تلك الأمة، وإن اختلفت بعض التفاصيل في الحدود المُشَكِّلة للدولة القطرية داخل دولة الإسلام.
الهوية هي تلك الخصائص والسمات المشتركة التي تجمع الجماعة الوطنية، والمستقاة من الدين والقيم والعادات والأعراف السائدة واللغة التي جمع ذلك المجتمع، وهي العناصر التي تشكلت على مر التاريخ من خلال انصهار ذلك التجمع البشري في حياة مستقرة على أرض واحدة، تشاركوا فيها النضال بكل أنواعه من أجل تكوين هذا المجتمع، ففوق تلك الأرض التي تجمعهم والسماء التي تظلهم عاشوا أفراحاً وأتراحاً، وتشاركوا الهموم والحلول، وذبوا عن أنفسهم الأعداء فسطّروا تاريخاً مشتركاً، واستقوا العلم من منهل واحد بمفاهيم واحدة، شكّلت وعيهم بالقضايا والحقائق، وثُبتت في ضمائرهم المسلمات، فعبّرت كل تلك العوامل عن كينونة الإنسان على تلك الأرض، ورسخت انتماءه على جميع مستوياته، فانعكس ذلك في تضحيات من أجل ذلك الوطن على جميع دوائره، من الحي وصولاً للأمة بأرضها المترامية، التي قد تصل إلى حد بذل النفس.
الثورة والهوية
تتعدد أهداف الثورة بين مطالب إزالة طبقة حاكمة أو نظام سياسي، أو المطالبة برفع ظلم يقع على الفئات الأوسع في المجتمع من خلال تقنين معين أو المطالبة بحقوق أهدرت أو إعادة عدالة سلبت، أو وقف انتهاكات ارتكبت، وتقف الثورة في النهاية لتغيير أوضاع فرضت، وقد تكون تلك الأوضاع تجاوزت الحياة اليومية إلى المساس بالهوية، بمكوناتها، فهناك ثورات قامت من أجل إصرار النظام على "فرنجة" المجتمع بتعليمه ولغته، وهناك ثورات قامت من أجل تغيير ثوابت المجتمع بدس قيم من شأنها مع الزمن تغيير الأعراف والتقاليد المجتمعية، تشبّهاً بالغرب، وهناك ثورات قامت من أجل المساس بالدين ورموزه.
فالثورة أشرف وأنبل نشاط بشري عرفته الإنسانية منذ عرفت الدولة والنظام، وذلك الشرف الذي يتوج فعل الثورة ويكرمه إنما يأتي من تمسك الثوار بقيم المجتمع الذي يثورون من أجله، ولولا تمسكهم هذا ما تجمع حولهم الأحرار وما ذب عن أعراضهم العامة، لقد تشكلت مجموعات ثورية إصلاحية على مستوى العالم، تهدي الناس إلى صالح العمل وتبصرهم بما يحاك لهم، من الاحتلال بأشكاله ووكلاء المحتل من أنظمة تحكم باسم الشعب وهي عن الشعب بعيدة.
تلك المجموعات الثورية الإصلاحية تقف صمام أمان لهوية المجتمع من القوى التي تريد حرفها عن ثوابتها، من أجل زعزعة قيمها الأخلاقية والدينية، ومن ثم يسهل تطويعها وبالنتيجة استعبادها، منهج تلك المجموعات النفعية التي تعمل لمصالحها التي تصب بالنتيجة لصالح الدول الاستعمارية، هو هز المنظومة القيمية للمجتمع ومن ثم إسقاطها، فهي حرب بين الخير والشر، بين الفضيلة والرذيلة، فلا تستطيع أمة أن تنهض إلا ومنظومتها القيمية راسخة، وهو ما يعزز الانتماء للأمة ويهون التضحية حفاظاً على تلك الثوابت.
لقد كان ما أنجزته اليابان بعد الهزيمة القاسية في الحرب العالمية الثانية بمثابة ثورة، استنهضت فيها همم اليابانيين، وأثارت وطنيتهم من خلال تعزيز المنظومة القيمية.
لم تنبطح اليابان ولا شعبها في ظل الهزيمة والدمار، الذي لحق ببلادهم أمام سطوة المنتصر وحضارته، بل حافظت على هويتها ونهضت منطلقة منها فرفع الإمبراطور ميجي شعار كان العمدة في نهضة اليابان: (العلوم غربية أما الروح فيابانية) ما جعل الياباني واعياً لما يتلقاه من الغرب، لكن إمبراطور اليابان كان حاذقاً واعياً متأججة روحه بقيم بلاده وثوابتها الأخلاقية، ما انعكس على تلك النهضة التي يتحاكى بها العالم الآن، وهكذا تنهض الشعوب بنباهة الحاكم ووطنيته، والعكس بالعكس.
الثورة والهوية في مصر
مصر هي الثورة الحقيقية بالمفهوم الذي طرحنا، فمصر هي من غيرت الأنظمة ورسخت المفاهيم وشكلت الهوية لا على حدودها، ولكن على كل أرض يعيش عليها المسلمون، ولا نبالغ، فالنضال الذي عاشه المصريون من أجل حماية أراضي أمتهم عسكرياً بالحروب والتضحيات التي قدموها من أجل تلك الأمة ترسم ملامح ما نعني، والنضال الذي عاشه علماء مصر بأزهرها ومثقفيها من أجل حماية هوية هذه الأمة، يؤكده كل منصف في هذه الأمة.
وما كانت ثورة يناير إلا فصلاً في كتاب مصر الثورة التي أرادت تغييراً تنتظره الأمة، يناير كتبت شهادة وفاة لدولة يحكمها الظلم، والأمة تراقب، كتبت بداية لحياة كريمة لمواطن، والأمة تترقب، يناير سعت لإزالة الظلم وترسيخ عدالة اجتماعية وقانونية والأمة ترصد، يناير رسخت في نفوس المصريين الكرامة الإنسانية والأمة تأمل.
يناير كانت حلم الأمة، لأن الكل يعلم أن مصر الثورة ستعيد للأمة هويتها، بعد عشرات السنوات من التغريب الممنهج لسلخ الأمة عن جذورها وتمييعها لإخراج أجيال من المسوخ تائهة لا تعرف بوصلتها، لذا نجد الحرب الآن على تجمعات بعينها وشيطنتها، لأنها تشكل عداءً حقيقياً لمن يملك زمام الأمور، سواء في مصر أو في باقي أقطار الأمة، فالحرب الحقيقية على الهوية تقتضي ضرب تلك التجمعات، فلم تكن مصر في يوم من الأيام علمانية، وكذلك الأمة، فرغم عمليات التغريب والعلمنة بقيت أمتنا رغم كل شيء متمسكة بهويتها الإسلامية، أما من يطالب بإلغاء خانة الدين من الهوية الشخصية التي تصدرها الحكومة فتافه، هويتنا الإسلامية باقية وحاضنة ومستوعبة كل الأديان، والقارئ للتاريخ يعرف ذلك.
أما من يتبنى حديث التغريب والعلمنة من أجل تحصيل مكاسب شخصية لترسيخ بقائه فخاسر لا محالة، فذلك الشعب وهذه الأمة تعرف الغث من الثمين، وتدرك أن خطابك يضاد مكنون ما تربوا عليه من عرف وتقاليد، كلها مستقاة من الدين، ولقد جرب من قبلك ذلك وفشلوا، رغم الإعلام الذي يصرف عليه المليارات، والتعليم الذي يشرف عليه الصهاينة، ورغم المنابر التي قيدت، لأن في هذه الأمة رجال وهبوا أنفسهم لحمايتها والحفاظ على هويتها والثورة التي جاء بها نبيهم.. (فإذا جاء أمر الله قُضي بالحق وخسر هنالك المبطلون).
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.