الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان.. نقلة حقوقية أم مناورة مكررة؟

عدد القراءات
3,034
عربي بوست
تم النشر: 2021/09/14 الساعة 12:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/09/14 الساعة 12:58 بتوقيت غرينتش
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي/ رويترز

ترتبط ثورات الربيع العربي من جهة أو بأخرى بأحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، التي تم فيها إعادة تدوير الطائرات الأمريكية، كصواريخ موجهة، لتدك برجَي مركز التجارة العالمي، ومبنى البنتاغون، وتسقط هيبة أمريكا، ومعها 3000 من الضحايا الأبرياء.

الدرس الذي استخلصه الأمريكيون من الحادثة، ثم نسوه لاحقاً، هو أن دعم الديكتاتوريات في الشرق الأوسط ليس بمعزل عنهم، وأن نتائجه المرعبة عادت إليهم في أحداث الثلاثاء الأسود.

بالتزامن مع تحرك الجيوش الأمريكية إلى أفغانستان والعراق، كانت الحكومات الخائفة في الشرق الأوسط، من العملاق الجريح، تُرخي قبضتها رويداً رويداً، التخفيف أعقبته انفراجة في الحريات، وانتخابات شبه مزورة كنوع من التغيير، ثم ثورات سميت بالربيع العربي، تلاها إسقاط نُظم، ثم ردة وتراجع وخريف وانتقام غير مسبوق.

مع الذكرى العشرين للحدث، اختار الرئيس السيسي يوم 11 سبتمبر/أيلول، ليطلق "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان 2021-2026″، بعد طول تأخير وتأجيل.

وكأنه يربط الحدث الصوري بحدث كبير فيضمن خلود ذكراه، أو ربما ليؤكد أن ثورة 25 يناير، كانت شهادة وفاة للدولة المصرية، وأنها هدمت الدولة كما هدم المتطرفون العرب البرجين في نيويورك، قبل أن يستعيدها مجدداً ويؤسس ديكتاتورية نظامه على أنقاض أحلام نشطائها الذين تفرقت أصوات مطالبهم بالحرية في السجون والمنافي.

وهي للفأل السيئ مجدداً ذكرى انقلاب الديكتاتور العسكري بينوشيه في تشيلي عام 73 على سلفادور اليندي.

مغازلة الخارج

احتفالية فارغة المضمون هشة، وسط حديث استهلاكي مطول غازل فيه الخارج بالتأكيد على أن  إصدار قانون بناء وترميم الكنائس تم بموجبه تقنين أوضاع نحو 1800 كنيسة ومبنى تابع لها، وأشار إلى وقوف كل من مسجد "الفتاح العليم" جنبًا إلى جنب مع كاتدرائية "ميلاد المسيح" بالعاصمة الإدارية الجديدة كشاهدين على فلسفة عهده!

 وعّدد الرئيس خطوات تمكين المرأة، ومنها حصولها على 128 مقعدًا من مقاعد مجلس النواب، بنسبة تجاوزت 28٪، وأن المرأة أضحت قاضية وسيطرت على 25% من مقاعد الحكومة. 

وخاص في التاريخ مذكراً العالم، أن مصر كانت من أولى الدول التي صاغت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، وأنها ترحب دوماً بتعدد الآراء واختلافها!

فيما أضاف إبراهيم عيسى، الإعلامي المقرب من الرئيس، ما هو مكتوب له بدقة ولم يستطع الرئيس قوله، ومنه "أريد من جهات الدولة أن تترك الدين للفرد مع ربنا ونعيد أصل الدين إلى جوهره وهو علاقة المرء بربه" .

ودعا إلى إعادة النظر في مادة ازدراء الأديان؛ لأنها مقيدة لحرية الاجتهاد وتظل سيفًا على رؤوس وأقلام الكتاب.

وطالب بتدريس النصوص المسيحية بل واليهودية في المناهج، وبإعادة النظر في الحبس الاحتياطي؛ لأنه كان مرتبطاً بظرف شديد التعقيد والدولة الآن أصبحت قوية ومتمكنة وصلبة.

وكانت سفارة واشنطن قد انفردت بإعلان يوم السبت 19 يونيو/حزيران الماضي، موعداً لإطلاق الاستراتيجية، بمشاركة الرئيس السيسي، عبر الفيديو كونفرانس، قبل الاستجابة لفكرة الاحتفال بحضور الرئيس وتأثيرات البروباغندا.

مسار ثقافي

وكما أهملت الاستراتيجية نهائياً ملف المعتقلين والمعارضين والممنوعين من السفر، لم يشِر الرئيس إلى مصير عشرات الآلاف من المعتقلين، واستمرار الحبس الاحتياطي المطول، والإعدامات والتدوير، وما مصير.. وهل سيطرأ أي تغيير في التعامل مع ملفات هؤلاء أم لا؟ وهي أصل المشكلة، وبيت الداء.

واعتبر التلميح بالضغوط فى سياقات حقوق الإنسان بمثابة فرض مسار ثقافي على المجتمع وشبهه بالمسار الديكتاتوري!

وأعلن بملء فِيه أن منح حقوق الإنسان للشعوب دون الإلمام بواقعها يؤدي لهدم الدولة!

القبول بالإخوان

لكن الجديد في الخطاب إعلان الرئيس قبول الإخوان لكن بشروط ثلاثة، يحترمون مساره، أي يسلمون بشرعيته. ولا يتقاطعون معه، أي لا ينافسونه. ولا يستهدفونه أي لا ينتقدونه.

على الرغم من أنه وصفهم فى بداية خطابه بالفكر الذي ينخر على مدار 90 عاماً فى جسد الدولة. 

فيما يذهب بعض المراقبين إلى أن ملف الإخوان بعد الضربات المزلزلة التي تعرضوا لها لم يعد سياسياً وأنه ملف إنساني بامتياز، ويحتاج لإيجاد حل عاجل.

لكن أغرب من قيل في الحفل، قول الرئيس:  إن"الميزانية الحقيقية التي تحتاجها مصر تريليون دولار سنوياً"، وأضاف: " ذا تم توفيرهم حاسبوني وحاسبوا الحكومة على الأداء والحقوق".

ويكأنه يطالب الشعب بتوفيرها! أو يلفت نظر الغرب لاحتياجاته، ويعرض قبول توصياته الحقوقية، مقابل مساعدات مالية.

أما أحمد إيهاب جمال الدين السفير الدائم بجنيف فألقى التصريح الأغرب، وقال: تسعى الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان لتحقيق معدلات من الاكتفاء الذاتي من السلع الاستراتيجية وتطوير منظومة الخبز ومنظومة بطاقة التموين!

واقع مرير

لم يختلف أحد على بنود الاستراتيجية، فالجميع يعلم أن أي تحسن في الأوضاع الجائرة سيكون موضع ترحيب، وأن الأزمة الأساسية الحقيقية في كارثة حقوق الإنسان هي تعمد الاستخفاف والعصف بدولة القانون -بلا وازع- وغياب الإرادة السياسية والتي عبر عنها الرئيس مراراً، باختلاف الثقافات والاحتياجات، بقوله: "إنسانيتنا تختلف عن إنسانيتكم"، وكأن مواثيق وقيم العدالة لم توضع إلا للغربيين، وأن من إنسانية المصريين أن يجتمع عليهم الفقر مع القهر.

بل إنه أطلق يد القضاء والأجهزة الأمنية في تحقيق ما يرونه العدالة الناجزة، اختصاراً للوقت والجهد والمال، وهو ما نتج عنه آلاف الإعدامات والإخفاءات القسرية، والقتل خارج إطار القانون، مع التعهد بالحماية والتأمين.

على الأرض توثق الأرقام المفزعة الوضع الكارثي لأوضاع حقوق الإنسان ومنها:

  • وجود 65 ألف معتقل سياسي.
  • 12 ألف مُختفٍ قسرياً على مدار  8 سنوات.
  • وفاة 1.058  شخصاً داخل السجون ومقار الاحتجاز خلال الفترة من 2013 إلى 2020.
  • مقتل 755  شخصاً خارج نطاق القانون في الفترة من 2015 –  2020.
  • تنفيذ أكثر من 100 حالة إعدام خلال العام الماضي، و80 حالة في النصف الأول من العام الجاري (الثالثة عالمياً).
  • حجب  513 موقعاً ومئات الصفحات.
  • اعتقال مئات المدونين والصحفيين.

هل عام  2022 عام المجتمع المدني حقاً؟

في ختام كلمته أعلن الرئيس عام 2022 "عامًا للمجتمع المدني".. وأكد مجدداً احترام مصر لجميع التزاماتها التعاهدية ذات الصلة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية، فيما تثار المخاوف بشأن القانون 149/2019 (قانون المنظمات غير الحكومية) ولائحته التنفيذية لعام 2021، والتي تمكن السلطات من ممارسة الرقابة الإشرافية، وتمنحها سلطة تقديرية واسعة لتنظيم وحل منظمات المجتمع المدني.

كانت 10 منظمات حقوقية، بينها كوميتي فور جستس، قد طالبت الحكومة بوقف تعاملها مع الحقوقيين باعتبارهم أسرى أو مجرد أوراق للتفاوض مع الإدارة الأمريكية حول المعونة العسكرية السنوية.

وبعد ساعات من وعد الرئيس، وتأكيده على حرية الاعتقاد وعدم الاعتقاد، قررت نيابة أمن الدولة إحالة باتريك جورج زكي، الباحث بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، للمحاكمة أمام محكمة الطوارئ، بتهمة "إشاعة أخبار كاذبة بالداخل والخارج"، وذلك على خلفية مقال رأي نشره منذ عامين.

تخفيف القبضة الأمنية

يجب أن ندرك أن السلطات الأمنية لا تحصل على امتيازاتها، ويرتفع شأنها ويعلو صوتها إلا في أجواء الخوف وعدم الاستقرار، هذا درس العشرية السوداء في الجزائر الذي وثقه الصحفي الراحل روبرت فيسك في مقال "مشاهد من حرب غير مقدسة".

 فمن مصلحة الأجهزة أن تحافظ على الاستقطاب والانتهاكات، ودهس مبادئ وقيم وضمانات حقوق الإنسان، وهذا كان السبب الرئيسي في قيام ثورة يناير 2011، التي خرجت ضد ممارسات وزارة الداخلية، قبل أن تتحول للتنديد بفساد الرئيس مبارك وأسرته وزمرته.

فلماذا تلتزم تلك الأجهزة بقيم الاستراتيجية وتطبقها على الأرض وما الذي سيعود عليها حينذاك؟!

وما الذي يحول بينها وبين تطبيق قيم حقوق الإنسان في دستور 2014؟!

وما الذي يمكن أن ننتظره من المؤسستين القضائية والتشريعية، وقد باتتا رهينة للسلطة التنفيذية التي بدورها تلتزم بتوجيهات المؤسسة العسكرية، وتأتمر بأمرها.

هل يكترثون؟

الإصلاح الحقيقي لأوضاع حقوق الإنسان لن يتأتى إلا بإرادة سياسية، واحترام الالتزامات الدولية والتوصيات التي قبلتها مصر في الاستعراض الدولي الشامل بالأمم المتحدة في دورته الثالثة في عام 2019، وغل يد القوات الأمنية، وتحرير كل السلطات بما فيها التنفيذية من سيطرة المؤسسات العسكرية.

واتخاذ قرارات جريئة بالإفراج عن المحبوسين احتياطياً، والعفو عن المحكوم عليهم في قضايا سياسية، ووقف تنفيذ أحكام الإعدام، وإنهاء حالة الطوارئ المفروضة بالتحايل على الدستور.

كل هذه القضايا الحيوية لم تقدم الاستراتيجية الغارقة في العموميات، أي تعهدات بتحقيقها فكيف ستؤثر في المجال العام وتحقق انفراجة إذاً؟

ما يعني أن النظام لا يمتلك إرادة حقيقية لتخفيف القبضة الأمنية، وأنه لا يزال يعتبر القمع هو السبيل الوحيد لفرض الاستقرار وجلب الأمن، وهذا نابع من الخلفية العسكرية للرئيس، والذي قال مراراً إنه لا يعرف السياسة، لكنه يمتلك القبضة الأمنية بالطبع.

لذا تظل الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان بمثابة حملة علاقات عامة مكشوفة ومنقوصة، وبروباغندا مدفوعة الأجر لتبييض الوجه، وتنظيف الجرائم، على غرار أفلام العصابات الأمريكية، ولولا الضغوط الخارجية، والتهديد بقطع المعونات لما اضُطر إليها النظام -أساساً- وهو يستعد لهجر العاصمة التاريخية، والانزواء في خندق شديد الحراسة، داخل كمباوند العاصمة الإدارية عاجلاً، ليدير ملايين البشر عن بُعد في جمهوريته الجديدة، مستخدماً كل أدوات القهر والقمع.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد مفرح
حقوقي مصري و مدير تنفيذي لـ (committee for justice) في جنيف
حقوقي مصري و مدير تنفيذي لـ (committee for justice) في جنيف
تحميل المزيد