حصد يسار الفيدرالية نتائج هزيلة في الانتخابات التشريعية والجهوية والمحلية بعد أن اقتصرت حصة تشكيلاته مجتمعة بما فيها حصة الحزب الاشتراكي الموحد المنفصل حديثاً عنه في مجلس النواب على مقعدين، ولم تتغير هذه النسبة في الانتخابات الجهوية والجماعية بمختلف مناطق المغرب، ولولا القاسم الانتخابي المفصل لخدمة الكيانات الصغرى مع إلغاء العتبة لكانت الحصيلة أسوأ بكل تأكيد.
كذلك خدمت الكوتا النسائية الجهوية يسار الخيار الثالث، حيث ظفر بمقعديه من خلالها، والتي يفترض على الأحزاب التقدمية أن ترفضها، لأنها تكرس حسب أدبياتها التمييز ضد المرأة أو على الأقل أن تتحفظ على الدفع بقيادات الصف الأول النسائية فيها، فكيف إذا تعلق الأمر بأمينة عام أحد أحزابها مع ما لها من مكانة اعتبارية، حيث يعتبر فوزها بطعم الخسارة كونها بحثت عن أقصر السبل للتمثيل البرلماني ونظراً لهزالة الأصوات التي حصلت عليها مع ذلك.
اللافت في حجم هذا الشكل من اليسار أنه لا يتطور، فمنذ تجربة منظمة العمل الديمقراطي في الثمانينيات مع زعيمها بنسعيد آيت إدير إلى اليوم ما زال يبرح مكانه رغم الطفرة التواصلية الكبرى التي أتت بها المنصات الاجتماعية الإلكترونية ورغم التلميع الإعلامي الذي حظي به في هذه السنوات ورغم التجارب الوحدوية العديدة التي جسدها مع أطياف من المنشقين عن الحركة الاتحادية ومع جمعيات يسارية أخرى، ورغم إشعاع 20 فبراير/شباط التي حاول استثمارها لصالحه باعتباره واحداً من مكوناتها مع أن دخوله للعبة السياسية هو مخالفة صريحة لنهجها التغييري، ونفس الشيء صنع مع الحركات الاحتجاجية التي زعمت السيدة نبيلة منيب أنها تنتمي لخطه السياسي.
لا شك أن الظروف التنظيمية التي اصطدم بها أثناء التحضير للانتخابات خصمت من رصيده الأخلاقي وقوته الانتخابية، ولا نبالغ إن قلنا إن أكثر خصومه عداء له ما كان ليفلح في تنظيم حملة كراهية تضرب مصداقية رموزه وقياداته وتبخس من أداء برلمانييه ونقابييه وفاعليه الاجتماعيين بمثل ما صنع، وهذا جزء من أزمته، فلئن كانت الترتيبات النهائية للانتخابات كفيلة بإحداث زلزال تنظيمي ضرب الاشتراكي الموحد ونسف تحالفه مع فيدرالية اليسار، فكيف تحفظ هذه الكيانات الصغرى وحدتها واستقلاليتها في مواجهة أخطبوط المخزن الذي ابتلع أحزاباً كبرى في مؤسساته الصورية؟
لسنا ضد احتجاج مناضلي هذا التيار ضد الداخلية، فما حدث في هذه الانتخابات هو فضيحة ترسخ أن السلطة وفيّة لأساليبها التحكمية وتدخلها السافر في كل شاذة وفاذة، غير أن كل هذا متوقع منها ومن يسوق للمشاركة في هذه الشروط عليه أن يحسب حساب ذلك، وعليه أن يفرض نموذجه، وأن يقدم برنامجاً يتناسب مع حجمه ومع طبيعة هذه الظروف التي يشتغل فيها لا أن يلقي الوعود على عواهنها في حملاته الانتخابية ويغرر بالناس، واعداً إياهم بتحقيق مطالب أكبر منه ومن اللعبة برمتها.
ما يبعث على السخرية هي المبررات التي يسوقها بعض منتسبي هذا التيار لإخفاء الإخفاق بحجة أن العملية الانتخابية هي فرصة للتواصل مع المغاربة، وكأن أدوات التواصل وفرص الالتقاء بالناس لا تتيسر إلا في المواسم الانتخابية أو أنها مرهونة حصراً بأصحاب كراسي مجلس النواب أو مجالس الجهات والجماعات، كما أن التهجم على خيارات الناخبين ورميهم بالجهل ووسمهم بالقصور عن فهم المشروع المجتمعي لهذا التوجه السياسي هو نرجسية وانتفاخ لا مسوغ له، فما دمت قد عرضت برنامجك على جمهور الانتخابات فلا حق لك بأن تعقب على سلوكه، وعليك أن تمارس النقد لخطابك ولأساليبك إن فشلت في إقناع الناس بمشروعك المجتمعي، ذلك أن رفع وعي المغاربة لا يكون بالازدراء والتنقيص منهم.
مشكلة يسار الفيدرالية والاشتراكي الموحد أنهما لم يفهما جمهور الانتخابات جيداً، الذي لا يشكل إلا أقلية من المغاربة، والذي لا يثيره حديث عن ريع وعن مأذونيات أو عن حرية واعتقال سياسي، وما إلى ذلك، فجل ما يهمه هو تقديم صوته لقاء خدمات إدارية أو إرضاء لروابط عائلية أو قبلية، وحتى لو اقتنع عموم الناخبين ببرنامجهما فإن إمكانية تنفيذهما على أرض الواقع في ظل مؤسسات شكلية هو محض أوهام.
خيارات اليسار الإصلاحي محدودة، وهو عملياً ليس أمامه إلا خيار واحد إن أراد الحفاظ على رصيده وهو الاصطفاف في المعارضة بما أن حجمه وطبيعة القوانين الانتخابية لا يؤهلانه للانخراط في التسيير مع كثرة اشتراطاته المبدئية، والتي لا يملك أن يتخلى عنها لكي لا يتحول إلى دكان مثل باقي الدكاكين السياسية، وهو في كل الأحوال سيخدم السلطوية؛ لأنه سيعجز عن دفع قراراتها وسيضفي عليها الشرعية كونه شارك فيها حتى وإن صوّت ضدها إضافة إلى إسدائه للمخزن خدمة جليلة بتصويره له ككيان ديمقراطي جداً، والذي يقبل تواجد معارضة مشاغبة في مؤسساته، حيث ستوحي مشاركته بأن المعارضة في المجمل هي أقلية ضئيلة أمام من يقبلون ممارساته دون تداول.
طبعاً هذا هو أفضل سيناريو يمكن أن يقدمه هذا اليسار في مشاركته داخل المؤسسات المخزنية، وإلا فلا ضمانات على التزامه بالخطوط الحمراء التي وعد باحترامها، وقد رأينا في أكثر من موقف هشاشة بعض أمنائه العامين أمام الداخلية وكيف يستجيبون لعدد من إملاءاتها ويبصمون على بياناتها الجاهزة أسوة بباقي أمناء الأحزاب الآخرين والذين يخوضون معاركها في الوقت الذي تريده هي وبإخلاص نادر.
الواقع أن المعارضة خارج النسق الرسمي هي الأقدر على التحرر من اشتراطات النظام المخزني، التي تحرمه من حيازة إجماع حقيقي على لعبته، لكن القوم يبحثون عن مواقع مريحة لمعارضة تظهر بطولاتهم المصطنعة المؤدى عنها من الريع المخصص لمنشطي هذه المؤسسات في ملفات محسومة سلفاً، وليس يهم بعد ذلك إن حدث التغيير أم لا، فالمهم هو أن تحظى مرافعاتهم الاستعراضية بالاستهلاك الإعلامي المطلوب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.