يوم الثامن من سبتمبر/أيلول لعام 2021 أصدر مجلس النواب الليبي قانون انتخاب رئيس بالاقتراع السري المباشر من الشعب في دائرة واحدة فقط، قانون أسال وسيسيل كثيراً من حبر الصحفيين والإعلاميين والمحللين، لأن هذا الحدث- انتخابات الرئاسة- الجلل والذي من المفترض أن يُقام في 24 ديسمبر/كانون الأول لهذه السنة سيحدث للمرة الأولى وبعد استقطابات عدة وحروب طاحنة وجلسات حوار مضنية.
من الملكية إلى الجماهيرية
منذ أن نالت ليبيا استقلالها ديسمبر/كانون الأول سنة 1951 أُنشئت بالنظام الملكي مبنية على اتحاد ثلاثة أقاليم يحكمها الملك محمد إدريس السنوسي، ومجلس نواب ومجلس شيوخ وحكومة يعينها الملك، واستمر هذا الوضع حتى انقلاب أبيض قاده الملازم معمّر القذافي سنة 1969 أنهى فيه عهد المملكة وأنشأ جمهورية تحت اسم الجمهورية العربية الليبية، كانت تُقاد بمجلس من الضباط الأحرار الذين قاموا بالثورة وحكومة مشكلة أيضا بأغلبية الضباط اللهم إلا الوزارات الفنية كالمالية أو الداخلية وغيرها.
استمر الوضع كما هو عليه حتى عام 1977 حينما كثر الحديث على سطوة العسكر وتنازع الضباط فيما بينهم حول من يقود الجمهورية الوليدة، حتى كثرت محاولات الانقلاب والاغتيال بينهم، لكن تشبث القذافي وتمسكه بالحكم كان أقوى من أي محاولة، وأعلن في النهاية قيام سلطة الشعب وشكّل ما سماه الجماهيرية العربية الليبية، يكون القذافي فيها هو الحاكم الفعلي للبلاد لكنه بمنصب شرفي كقائد لثورة الفاتح وتُطعّم الوزارات والمناصب القيادية بالمدنيين، ودون انتخابات و دون دستور حيث يعين القذافي الحكومة والمسؤولين الكبار ويعطيهم هامشاً ضئيلاً من الحرية والتحرك.
استمرت ليبيا بمفهوم الجماهيرية حتى بزوغ نجم سيف الإسلام القذافي الذي أصبح ينظر له كرجل الإصلاحات السياسية في ليبيا بحديثه عن الدستور ورؤية "ليبيا الغد" والتصالح مع أعداء النظام والاقتراب أكثر من الشعب الليبي ودول الغرب. لكن تلك الشعارات البراقة كلها كانت في سبيل الحفاظ على بقاء حكم عائلة القذافي. إذ كان يرى سيف الإسلام الانتفاضة قادمة لا محالة وأنه لا بد أن يتنازل النظام من أجل أن يضمن البقاء وأن والده، معمر القذافي، لا يمكنه الاستمرار في الحكم بعقليته التقليدية، وصدقت رؤيته، وجاءت رياح الربيع العربي لتعصف بحكم القذافي وعائلته.
من سطوة القذافي إلى أمواج الإقليم
مع الانتفاضة الليبية تأسس المجلس الوطني الانتقالي، الذي كان بمثابة برلمان غير منتخب وشكل مكتباً تنفيذياً تحت مسمى حكومة تقود أوضاع البلاد وكانت غير منتخبة أيضاً بحكم الواقع الذي فرضته الحرب والأوضاع المعيشية الصعبة وانهيار المؤسسات التي لم تكن موجودة من الأساس.
المجلس الوطني الانتقالي أعد العُدة للانتخابات البرلمانية، وفعلاً أُجريت الانتخابات الأولى في البلاد منذ أكثر من 50 سنة لاختيار أعضاء المجلس النيابي الذي سمي بالمؤتمر الوطني العام، والذي يمتلك صلاحيات أن يكون رئيساً للبلاد ككل، ثم تم انتخاب مجلس النواب في منتصف 2014 وانقسمت البلاد رأسياً فأصبح هناك نزاع بين مجلس النواب والمؤتمر الوطني العام، حتى وقع المتنازعون اتفاقاً سياسياً في الصخيرات المغربية أواخر 2015 يعطي الأمور التشريعية للبرلمان، وأعاد تشكيل المؤتمر الوطني العام كمجلس استشاري، وعُين فايز السراج رئيساً لليبيا ولحكومة الوفاق الوطني منذ ذلك التاريخ حتى سلم السلطة 2021 على أعقاب حرب طاحنة على أسوار طرابلس أتت على الحرث والنسل وزادت من دمار المُدمر أساساً.
دخلت الأطراف المتنازعة حوار جنيف وارتضت بتشكيل لجنة من 75 عضواً سميت بلجنة الحوار السياسي الليبي من جميع الأطراف والكيانات والانتماءات السياسية وموزعة بين الأقاليم الثلاثة؛ لتشكل هذه اللجنة حكومة موحدة ومجلساً رئاسياً لكل البلاد، وفعلاً أُنجزت المهمة بوصول محمد المنفي وموسى الكوني وعبد الله اللافي للحكم كمجلس رئاسي للبلاد، وعبد الحميد الدبيبة رئيساً لحكومة هذا المجلس.
حتى الآن ومنذ تأسيس ليبيا ونيلها استقلالها لم ينتخب الشعب الليبي رئيسه حتى الآن، فمن فَرْضِ الملك وتعيينه للحكومات، إلى سطوة القذافي طيلة 41 عاماً، إلى فترات انتقالية وانقسامات رأسية في عهد فبراير/شباط وما تبعها من حروب واستقطابات ونزاعات على السلطة؛ ناهيك عن تقاذف الأمواج الإقليمية وتغيراتها للقوى السياسية في ليبيا.
الإنجاز الأكبر
على الأرض حوى القرار مادةً في شروط الترشح تفيد بأن يترك المترشح منصبه سواء أكان مدنياً أو عسكرياً قبل موعد الانتخابات بثلاثة أشهر؛ بمعنى أنه يتوجب على كل من أراد الترشح أن يترك منصبه قبل يوم الرابع والعشرين من سبتمبر/أيلول إذا تأكد إجراء الانتخابات في موعدها، وهذا ما سيرسم خريطة المجريات القادمة ويكشف عن نية من هم في الحكومة اليوم أو في مناصب عسكرية وسيادية في الترشح من عدمه.
حتى الآن لم يعلن رسمياً عن ترشحه إلا فتحي باش آغا وزير الداخلية السابق عبر لقاء مع صحف ليبية وغربية، وسيف الإسلام القذافي بطريقة خجولة وغير رسمية عن طريق وكالة أخبار محلية، فيما تردد شائعات حيال نية خليفة حفتر القائد العسكري وعبد الحميد الدبيبة رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية ونوري أبوسهمين رئيس المؤتمر الوطني العام السابق وآخرين من الشخصيات المغمورة للترشح لخوض غمار هذه الانتخابات المصيرية.
على صعيد النخب، يوجد انقسام كبير حول وجهات النظر للتعاطي مع الانتخابات أساساً ومع قانون انتخاب الرئيس خصوصاً، فبينما تدفع غالبية الشعب الليبي حول إجراء انتخابات تنهي النظام البرلماني وتنهي الانقسام وتزيح الوجوه الحالية الجاثمة على الصدور، هنا من ينادي بتأجيل الانتخابات أو بانتخابات برلمانية في أسوأ الظروف إلى حين الاستفتاء على الدستور، وهذا قد يبدو أمراً بعيد المنال؛ نظراً لتعقيد قانون الاستفتاء على الدستور وجدليته في كثير من النقاط، خاصة لدى بعض المكونات الاجتماعية والثقافية في ليبيا، من جانب آخر ينادي برلمانيون بأن هذا القانون هو قانون هيئة رئاسة البرلمان فقط ولم يعرض على المجلس للتصويت عليه وهم من أغلبية ترفض الانتخابات أساساً.
في تصوري أن هذا القانون يعد إنجازاً وسيكون يوم الانتخابات هو الإنجاز الأكبر، وستكون ليبيا موعودة بتغير حقيقي غير حقبة الملك أو القدافي أو برلمانيي فبراير/شباط، وأن الشعب الذي سينتخب رئيسه للمرة الأولى سيكون خط الدفاع الأول عن الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.