سرحت قليلاً أثناء مشاهدتي الفيلم العربي القديم، البطلة شادية يتعين عليها الانتظار للصباح كي تلحق بحبيبها المسافر في الميناء وتخبره بأمر جلل يجب أن يلغي السفر من أجله، تسير الحبكة في مسارها التقليدي وتتخلف البطلة بالطبع عن موعد الباخرة، ليس من ثمة هواتف أو وسائل تواصل كي تخبره بشأن الطفل المنتظر، يقاطعني ابني الأكبر ممسكاً بهاتفه يطلب مني أن أشاهد معه فيديو مضحكاَ، على حد قوله، على تطبيق التيك توك، يبدو لي الفيديو سيئاً وسخيفاً للغاية، ولكن ابني يخبرني بأن صانع الفيديو المراهق هذا يمتلك قناة لها آلاف المتابعين وأنه يجني الملايين من ورائها، يردد في مناسبة أخرى أغاني "نمبر وان"!
أناقشه بالعقل أن هل تراه نموذجاً جيداً؟! يتفق معي في عدم احترامه للشخص لكنه ودون أن يشعر يبدي إعجابه بسيارته الجديدة وبكونه نموذجاً ناجحاً، يصرح لي برغبته في أن يصبح gamer أو يوتيوبر، وأظل أناقشه بالوازع الديني تارة وعن رغبتي بأن أراه نافعاَ وصالحاً بغض النظر عن الأموال التي لا تحدد قيمة الإنسان. وقد كانت علاقتي بالفعل طفيفة بتطبيقات الفيديوهات تلك، ولم أكن يوماً من مرتادي إنستغرام مثلاً، إذ لا يشتمل حسابي سوى على ثلاث صور على الأكثر، ولكنني وبفضل ابني مؤخراً اتجهت لمشاهدة هذا العالم فرأيت فتيات صغيرات في أوائل العشرينيات لم يعرفن معنى الوظيفة، أو يختلف لديهن معنى كلمة الوظيفة والعمل ككل، يجنين الأموال فقط مقابل التصوير بوضعيات متعددة، يرتدين الفساتين، يتلقين الهدايا من شركات التجميل، يسافرن إلى بلاد كثيرة لوضع المساحيق والتقاط الصور الترويجية. وهكذا أينما يتحركن تنهال عليهن الأموال. والمال ليس غاية في حد ذاته ولكنه وسيلة، وسيلة للتحرر من عبودية الوظيفة، من أداء عمل غبي بشكل متكرر.
بالطبع لست بالسذاجة التي أظن عليها الأشياء كما تبدو، وليس الأمر في الحقيقة بالضرورة كما يظهر في الصور التجارية البراقة، والإعلانات المدفوعة، ولكن الخيال ملعون لا حدود له. وليس أشق من فكرة أنك ستعيش مجرد حياة عادية للغاية، ليس فيها ما يثير.
كل ليلة تساورني الأفكار المثيرة، أتخيل صوراً عديدة لنفسي في مدن كثيرة، باريس، مدريد، لشبونة، روما، فينيسيا. تظل الصور تتعاقب في سرعة بداخل ذهني وهذا ما يمنعني من النوم بسهولة ويجعلني أستيقظ متأخرة في اليوم التالي لأقوم في عجلة من أمري، وأحث الخطى محاولة اللحاق بدفتر الحضور والإمضاء. من الممكن أن أنفق آخر مدخراتي على رحلة كهذه ولن أمتلك شيئاً بعدها، تلك مغامرة أو مقامرة سأظل أتذكرها حتى أصل لعمر الستين. إن تلك الحياة على طولها ورتابتها قد شملت حدثاً واحداً غير عادي بالتأكيد.
عدت مجدداً إلى شادية، آه يا شادية.. بالطبع قضت أحداث الفيلم بأن يظل البطل في بعثته الخارجية دون أن يعلم شيئاً عن مأساة حبيبته. صار الطفل الآن في عامه الرابع ولم يعلم والده بعد بوجوده، شيء يشبه الفانتازيا بحق، فلا "واتساب" ولا "فيسبوك" ولا حتى ثمة هاتف تخبره عبره، أولئك أناس عاشوا وماتوا دون أن يعلموا شيئاً عن سكان البلد المجاور لهم، لم ترهقهم التطلعات، لم يتعرضوا لمحنة أن ترى كل شيء بعينيك، أن تلهث وأنت تشاهد العالم بأسره من مكانك، المتاح وغير المتاح، لم يسعفهم الحظ ليروا صورة حقيقية لممشى قصر فرساي مثلاً، أو شواطئ المالديف الساحرة، أقصى ما تمنوا أن يعيشوا حياة طويلة عادية فيا لهم من محظوظين.
للمرة الثانية يقطع ابني الأكبر تيار أفكاري سائلاً في رجاء: ماما.. متى تسمحي لى بإنشاء قناتي الخاصة؟
ولكن لم تواتني الرغبة تلك المرة في بدء أسطوانة النصح والإرشاد عن قيمة الإنسان وما يقدمه في حياته من عمل، وحده الندم ساورني، ألم تراودني تلك الأفكار أنا الأخرى، وحدها الشفقة عقدت لساني، الشفقة تجاهه من شلال المعايير المادية التي تحاوطه هو ومن يماثله في العمر، بالطبع لم أستطع الاستمرار في متابعة شادية بعد تلك اللحظة، ولكنني ظللت أتساءل في داخلي، ماذا قدمت لنا تلك التكنولوجيا البائسة سوى أفق يتسع بجنون في كل لحظة، وصدر يضيق بضعف المقدار في كل يوم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.