في ظل تمكّن حركة طالبان من بسط سيطرتها على كافة أرجاء أفغانستان، أعلنت الحركة في يوم 7 سبتمبر/أيلول 2021، تأسيس حكومة تصريف أعمال تشكَّلت في أغلبها من قيادات وكوادر طالبانية من ذوي العرقية البشتونية، دون أن تسند أي وزارة لعناصر نسائية، ومن ثم تنوعت ردود فعل الجهات المعنية بالملف الأفغاني، فقد أعلن الكرملين أن روسيا لن تشارك في تنصيب حكومة طالبان، أما وزير الخارجية الأمريكي بلينكن فأعلن أن تقييم أي دعم أو شرعية للحكومة التي أعلنتها طالبان سيعتمد على أفعالها، كما عبر عن القلق من انتماءات وتاريخ بعض وزراء الحكومة.
لكن في المقابل تُدرك الدول الكبرى أن العودة للسياسة القديمة بمقاطعة وحصار نظام الحكم الذي أسسته طالبان ستكون تداعياته الاستراتيجية سلبية على مصالح تلك الدول، وسيدفع طالبان إلى أحضان جهات أكثر إزعاجاً. ومن ثم صرّح وزير الخارجية الروسي لافروف بأن (الحوار مع طالبان ضرورة، والاعتراف الدولي بالحركة يتوقف على مدى وفائها بوعودها)، في حين أعلنت الحكومة الصينية أنها مستعدة للحفاظ على التواصل مع زعيم طالبان وحكومة تصريف الأعمال التي شكّلتها الحركة. كذلك صدرت إشارات من واشنطن تدل على خشية الإدارة الأمريكية من دفع طالبان إلى حضن الصين وغيرها من دول الجوار الأفغاني، وهو ما سيجعل الولايات المتحدة تخرج من اللعبة دون أي مكاسب. وفي هذا السياق قال الرئيس الأمريكي بايدن: "أنا متأكد من أن الصين مثل باكستان وروسيا وإيران ستحاول التوصل إلى تفاهم مع طالبان".
من جهتها تحاول طالبان الممازجة بين خطاب تطميني للمجتمع الدولي مع التمسك بثوابتها الشرعية، حيث أعلنت أنها تحرص على بناء علاقات إيجابية مع كافة الدول، بما فيها الولايات المتحدة، دون السماح للآخرين بالتدخل في شؤونها الداخلية. وأضاف المتحدث باسم الحركة أنها تتوقع أن يضع العالم حداً للعداوة مع أفغانستان، وأن يمد يد العون للشعب الأفغاني. ويبدو أن كلاً من حركة طالبان والدول الكبرى والإقليمية يسعيان لتجنب تكرار التجربة السابقة التي حدثت خلال حكم طالبان قبل 2001.
دروس الماضي ومرآة التاريخ
عندما تمكّنت حركة طالبان من السيطرة على قرابة 90% من الأراضي الأفغانية في فترة حكمها الأولى الممتدة من عام 1996 إلى 2001، لم تحظَ سوى باعتراف ثلاث دول هي باكستان والإمارات والسعودية. وبخلاف الصورة الشائعة عن الحركة بأنها ناصبت المجتمع الدولي العداء، نجد أنها كانت حريصة على مد جسور العلاقات مع الخارج.
فبحسب تقارير الأمين العام للأمم المتحدة الصادرة في الفترة من 1997-2000، الصادرة بعنوان "الحالة في أفغانستان وآثارها على السلم والأمن الدوليين"، نجد أن طالبان أرسلت وفوداً إلى اليابان والصين وكوريا الشمالية وتايلاند في عام 1997، لتدشين علاقات خارجية، كما زار وفد من الحركة برئاسة وزير المناجم سويسرا في عام 1999، بناء على دعوة رسمية. واستضافت طالبان في عام 1999 بأفغانستان وفوداً من اليابان والصين. كما استقبلت الحركة مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بمدينة قندهار، في 2 سبتمبر/أيلول 1997. كما عقدت طالبان اتفاقاً مع برنامج الأمم المتحدة للمراقبة الدولية للمخدرات، بهدف التعاون في القضاء على زراعة نبات الخشخاش، وهو ما تُوج في يوليو/تموز 2000 بإصدار الملا عمر قراراً يحظر زراعة الخشخاش في أفغانستان.
كما استقبل كبار قادة الحركة بقندهار وفي مقدمتهم رئيس مجلس وزراء حكومة طالبان الملا محمد رباني المبعوث الأممي الخاص لأفغانستان الأخضر الإبراهيمي عقب تعيينه في منصبه في أغسطس/آب 1997. كما زار بيل ريتشاردسون الممثل الأمريكي الدائم لدى الأمم المتحدة أفغانستان، في 17 أبريل/نيسان 1998. ثم وقعت الأمم المتحدة أول وثيقة تفاهم بينها وبين طالبان حول مسائل المساعدة الإنسانية، في مايو/أيار 1998، وتضمّنت الوثيقة إنشاء آلية للتعاون وحل المشاكل بصورة مشتركة.
لكن تلك الجهود تعرضت لضربة مع حادث مقتل موظف ببعثة الأمم المتحدة المقدم الإيطالي "كارمين كالو"، وإصابة آخر عقب هجوم تعرضا له من قبل ركاب سيارة تحمل شارات طالبان بكابول، في يوليو/تموز 1998، حيث قرّرت بعد ذلك الأمم المتحدة سحب كافة العاملين التابعين لها من أفغانستان، في حين أعلنت طالبان آنذاك عدم صلتها بالحادث، واعتقال اثنين من المشتبه بهم، وتبيّن أنهما من باكستان.
وفي فبراير/شباط 1999، أثار وفد من الأمم المتحدة مع قيادة طالبان بقندهار ملف أسامة بن لادن. ثم بدأ فصل من التوتر بين المجتمع الدولي وطالبان عقب فرض الولايات المتحدة، في 5 يوليو/تموز 1999، لعقوبات مالية واقتصادية على طالبان، على خلفية إيوائها أسامة بن لادن. ثم في نوفمبر/تشرين الثاني 1999، فرض مجلس الأمن عقوبات على حكومة طالبان بسبب رفضها تسليم بن لادن، وشملت العقوبات حظر تحليق الطائرات التي تملكها أو تستأجرها أو تشغلها حكومة طالبان، وهو ما أدى إلى إيقاف رحلات خطوط شركة الطيران الأفغانية أريانا إلى وجهتها الوحيدة آنذاك وهي دولة الإمارات. كما شملت العقوبات تجميد الأصول المالية الخارجية لطالبان، وحظر أي معاملات مالية مع حكومتها، وهو ما دفع باكستان إلى إغلاق كافة فروع المصارف الأفغانية الموجودة على أراضيها.
ثم في عام 2000 فرض مجلس الأمن عقوبات جديدة تضمنت حظر جميع الرحلات الجوية من وإلى الأماكن التي تسيطر عليها طالبان، وإغلاق مكاتب الخطوط الجوية الأفغانية بالخارج، وتقييد سفر مسؤولي طالبان بداية من رتبة نائب وزير، وإغلاق مكاتب حكومة طالبان الدبلوماسية بالخارج، وقد أدت تلك الإجراءات إلى تقليص الأنشطة الاقتصادية في عدة مجالات، وتقييد حركة السفر والشحن من وإلى أفغانستان، فضلاً عن انخفاض سعر العملة.
وبالمقابل قال الملا محمد رباني، رئيس وزراء حكومة طالبان، خلال اجتماعه مع مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، في فبراير/شباط 2000، إن بن لادن اتّخذ من أفغانستان مقراً لإقامته قبل وصول طالبان للسلطة، وأن الأعراف الأفغانية الخاصة بكرم الوفادة تحول بينهم وبين تسليمه دون موافقته، وأنه لا توجد أدلة كافية للربط بينه وبين الهجمات على سفارتي أمريكا في كينيا وتنزانيا، وأضاف أنه لم يعد بوسع بن لادن القيام بأي أنشطة من الأراضي الأفغانية، وقد عرضت الحركة محاكمة بن لادن في أفغانستان أمام محكمة يعقدها علماء من أفغانستان والسعودية، وهو ما لم يحظ بتفاعل أمريكي أو دولي.
وعقب مرور عقدين على تلك الأحداث نجد أن فرض عقوبات دولية على طالبان لم ينجح في تحقيق الهدف المتمثل في تسليم بن لادن، إنما أدى إلى إضعاف خطوط التواصل مع الحركة، وأضر بالشعب الأفغاني. في حين أن استمرار التواصل كان يمكن أن يعيق اندلاع الحرب التي استمرت عشرين عاماً. ولعل الدرس الأبرز أن التواصل مع طالبان باحترام وندية سيحقق مكاسب لجميع الأطراف، بدلاً من ممارسة الضغوط وفرض الشروط التعجيزية المخالفة للأعراف الأفغانية، التي أثبتت عدم جدواها في تغيير سلوك طالبان. وهو الدرس الذي يبدو أن الدول الكبرى وعته بعد أن دفعت ضريبة باهظة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.