رغم أن جل المراقبين للشأن السياسي في المغرب قد توقعوا قرب انتهاء تجربة "العدالة والتنمية" الحكومية بعد تسيُّده المشهد الحزبي المخزني لولايتين متتاليتين بأغلبية مريحة، حيث إن أكثر القراءات تشاؤماً اقتصرت على التنبؤ بفقدان صدارته لصالح الأحزاب الأربعة الكبرى، أما أن يتذيل أدنى سُلم الترتيب في الانتخابات التشريعية برصيد 12 مقعداً برلمانياً، فذلك انكسار غير مسبوق يؤشر إلى تداعي قواعده الشعبية الصلبة. ذلك أن الحزب الذي تمكن من فرض نجاحه بتلك الشريحة من أعضائه والمتعاطفين معه، رغم نقمة الساخطين على أدائه السياسي من المقاطعين للعبة السياسية، والذين لم يخلفوا الموعد من أجل نصرته في المرات السابقة، أخفق اليوم في إقناعها مرة أخرى بالتصويت لصالحه.
الواقع أن "العدالة والتنمية" فقد مبرر وجوده كحزب يحمل رسالة يسعى إلى تنزيلها بوسائله الإصلاحية، والذي ركز في خطابه للمغاربة على الدفاع عن الهوية تارة وعلى تنمية البلاد وضمان الرفاهية لأبنائها تارة أخرى، فلا هو حصّن الأولى ولا هو حقق الثانية، حيث أشهر الراية البيضاء قبل أن يقْدم على أية خطوة في هذا الباب، وهكذا ففي ولايتيه وقَّع زعيمه على اتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتم تقنين القنب الهندي، كما وقف عاجزاً أمام المشاريع الفرنسية التي عادت إلى المنظومة التعليمية بقوة، فضلاً عن الإجراءات الاحترازية غير المبررة تجاه المساجد ومُصليات الأعياد في نظر كثيرين، والطريف أن هذا حدث في زمن الحزب الذي أقامت قيادته الدنيا ولم تقعدها قبل عشرين سنة في قبَّة البرلمان على لباس صحفية، قيل عنه إنه غير محتشم.
أما موضوع التنمية التي بشَّر بها الحزب، مستلهماً نموذجي تركيا وماليزيا، فقد ظل مجرد شعارات للاستهلاك، والحقيقة أنه تبنى في المقابل سلسلة من الإجراءات التعسفية التي طالت جيوب المواطنين الذين ازدادوا فقراً وهشاشة مع تدني الخدمات المقدمة لهم في مجالي الصحة والتعليم وغيرهما. ونحن هنا لا نحمّل الحزب أكثر مما يحتمل، لأننا نعرف طبيعة الحكومات وحدود صلاحياتها، غير أننا نحاكمه على الدعاية التي انخرط فيها وروَّج لها والتي فوَّتت على المغاربة تغييراً حقيقياً في أوضاعهم، فهو من ادَّعى أن المغرب سيعيش عهداً جديداً، وكان عليه من هذا المنطلق أن يفي بوعوده التي كسب بها فئة من الأصوات أو على الأقل أن يتوقف عن الاستجابة للتعليمات المخزنية.
ما حدث لـ"العدالة والتنمية" هزيمة مدوية، ولئن كنا نجزم بأن الحزب لن تقوم له بعدها قائمة والذي لن يختلف عن باقي الأحزاب الإدارية التي تؤسس السلطة بها مشهدها الحزبي، غير أن الصحيح أن تعميم الحكم على باقي الإسلاميين في عموم المنطقة تعوزه الموضوعية، فهو مجرد تعبير عن أمانيّ أكثر منه حقائق راسخة على الأرض، ذلك أن المشهد مُربك ولا يحتمل مثل هذا التبسيط المخل، فمن يحاول الربط بين إسدال الستار على تجربة الحزب المغربي بما وقع لـ"النهضة" التونسية ولـ"الإخوان المسلمين" في مصر عليه كذلك أن يستحضر عودة طالبان إلى الحكم في أفغانستان وقيادة الحركة الإسلامية للمقاومة الفلسطينية في الحرب الأخيرة؛ والأهم أن الحزب المذكور لا يمثل إلا الطيف الأصغر من الإسلاميين في المغرب، ومن الإجحاف أن تتحمل تنظيمات إسلامية كـ"العدل والإحسان" و"الحركة من أجل الأمة" وغيرهما من الفاعلين الإسلاميين المستقلين جريرة فئة من المقامرين بمستقبل الإسلام السياسي بالمغرب.
كذلك علينا التمييز بين الإنهاء القسري بقوة الأجهزة الأمنية والعسكرية الخشنة، عدة تجارب ديمقراطية محسوبة على الإسلاميين عبر الانقلابات كما وقع في مصر وتونس، وإرادة شعبية جارفة رافضة لخط هذا الحزب الحكومي والتي تمثلت في مقاطعة واسعة من المغاربة للانتخابات التشريعية وفي تمرد المتعاطفين معه عليه وفي إسقاطه من طرفهم بالوسيلة نفسها التي أتى بها. وهذا لا يتعارض مع إقرارنا بأن الآليات المعتمدة في كل الانتخابات منذ الاستقلال إلى يومنا هذا منخورة وغير صالحةٍ ألبتة لإحداث أي تغيير في واقع المغاربة.
فـ"العدالة والتنمية" ليس الحزب الوحيد المتضرر من تلك الممارسات وقد استطاع التعايش معها فيما مضى، بل إنه استفاد منها بفعل عجز المؤسسات المعطوبة عن احتواء قوى مجتمعية حية أقوى منه ظلت خارج النسق الرسمي، الشيء الذي أهَّله للاشتغال دون منافس بشروط جد متدنية، ففي الوقت الذي كانت فيه القوى الممانعة تُستهدف وتُحاصر كانت تُفتح له الفضاءات العامة والخاصة ويشتغل فيها بأريحية كبيرة لقاء عرض خدماته للسلطة كما في صفقة "20 فبراير"؛ ثم إن نتائج هذه الانتخابات تنسجم مع مخرجات انتخابات سابقة كالانتخابات الجزئية وانتخابات اللجان الثنائية مروراً بالانتخابات المهنية، وهو ما يزكي طرحنا بأن الحزب استنفد رصيده الشعبي.
هزيمة "العدالة والتنمية" المدوية تعبير واضح على هزيمة الخط الإسلامي الإصلاحي التائه عن أهدافه التي من أجلها دخل حلبة التدافع على هوامش السلطة والتي أصبح أسير متاهاتها، وهو ما جعل عموم التيار الإسلامي يتضرر من تجربة هذا الحزب التي طالت عذريته السياسية وجرحت صورته المجتمعية؛ إلا أنه وفي ظل غياب أية قوى منافسة له، فإنه مازال قادراً على تجاوز إخفاقاته وتصحيح الأوضاع من الداخل بشرط ضرورة إحداث مفاصلة بينه وبين الخط البراغماتي الذي يسيء إلى الإسلاميين ويُظهرهم بصورة انتهازية تُبعدهم عن النبض الجماهيري.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.