انقسامات داخلية وتحركات الجهاديين وهجرة العقول الفذّة.. عن صراعات الطالبان الجُدد

عربي بوست
تم النشر: 2021/09/09 الساعة 09:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/09/09 الساعة 14:19 بتوقيت غرينتش
الصراع الأفغاني هو أطول حرب في تاريخ أمريكا/رويترز

بعيداً عن تشكيل حكومة طالبان الجديدة وعما يشاع أن حركة طالبان قد هزمت الجيش الأمريكي وحررت أفغانستان من الاحتلال الغربي وأنها قد تخلصت من جمودها الفكري وتغيرت بشكل إيجابي بدليل سيطرتها على السلطة دون إراقة دماء، فهذا المقال يركز على عقبات داخلية خطيرة قد تقف أمام نجاح الإمارة الإسلامية الثانية. فهذه العوائق نابعة أساساً عن صعوبة أو شبه استحالة المواءمة بين ماضي حركة طالبان الفكري في ممارسة الحكم مع واقع أفغانستان والنظام الدولي.

إن إحدى النتائج السلبية لصرامة الحكم الطالباني السابق على الشعب الأفغاني قد ظهرت بمجرد دخول قوات الإمارة الاسلامية الجديدة كابول حيث هرعت النخبة الأفغانية من كافة التخصصات إلى المطار لمغادرة البلاد مع أسرهم رغم ضمانات حركة طالبان بعدم المساس بهم وحثهم على عودة الموظفين منهم إلى مكاتبهم لمزاولة أعمالهم العادية. واللافت في عملية دخول القوات الطالبانية مدينة كابول واستيلائهم على القصر الرئاسي أنه قد تم دون إراقة دماء لكن لم تواكبها مظاهر فرح وترحيب من قبل السكان بل نزحوا إلى المطار دون اكتراث بوجهة سفرهم!

ولعل من الظلم والإجحاف إرجاع سبب مغادرة أكثر من 120 ألف أفغاني وأفغانية بلادهم المحبوبة لديهم بالعمالة للقوات الأجنبية دون التطرق بما قامت به حركة طالبان في حكمها الماضي من أخطاء في حق الرجال والنساء بمصادرة أبسط حقوقهم. نعم، كان أفغان المطار مُحِقِّين بالهرب من نظام كان يكبل حرياتهم باسم الدين عبر تفسير خاطئ وقاس للشريعة الإسلامية السمحة. وبدلاً من محاولة إقناع أفغان المطار بالبقاء في البلاد، كان من الأجدر لقادة طالبان الجدد أن يطلبوا العفو أولاً من الشعب الأفغاني بسبب أخطائهم السابقة تجاهه معطياً ضمانات بعدم تكرارها في نظامهم الجديد.

هروب الكوادر البشرية

والمهم في قضية مطار كابول ليس الوقوف على سبب مغادرة هؤلاء الأفغان بلادهم فحسب، بل كيف يتمكن نظام طالبان الجديد أن يحكم أفغانستان حكماً رشيداً يرضي الأفغان مع تفريغ البلاد من كوادرها البشرية المدربة بسبب هروب عشرات الآلاف من العاملين في القطاع العام والخاص الذين لم يكونوا من المتعاونين مع القوات الأمريكية وقوات الحلف الأطلسي بل كانوا يعملون في مجالات مهمة كالطيران والاقتصاد والإدارة والهندسة والإعلام والحقوق والآداب واللغات وغيرها؟ ويجدر الاشارة إلى أن قسم اللغة الفرنسية بجامعة كابول قد تم إغلاقه نهائياً بسبب هروب كافة أعضاء هيئة التدريس والعاملين فيه إلى فرنسا بمن فيهم الفرّاش! فمتى وكيف تملأ الطالبان الفراغ الذي تركته عشرات الآلاف من النخبة الأفغانية المدربة؟  علماً بأن حركة طالبان معروفة بضعف قدراتها البشرية في إدارة الدولة والتخطيط وحتى في المجال الديني! فهل سيتحمل الشعب الأفغان إخفاقات طالبانية أخرى في إدارة أفغانستان وفي فهم النظام الدولي والتعاطي معه بوجه صحيح؟

طالبان بريطانيا مطار كابول
طائرة محملة بمئات الأفغان الهاربين من مطار كابول- رويترز

ومن التحديات الداخلية الخطيرة التي قد تقضي على حركة طالبان الجديدة خرقها لأيديولوجيتها الدينية دون بذل جهد لإقناع أعضائها وحلفائها السابقين فكرياً بصحة مسارها الديني الجديد. كان الفكر السياسي الطالباني في إمارتها الأولى يقوم أساساً على تحالفات مع جماعات جهادية وعلى الصرامة في قراءة نصوص الشريعة حرفياً وتطبيقها في السياسة الداخلية والخارجية. ولعل أقوى مثال على هذه الصرامة النصية وتطبيقها في الواقع السياسي استدلال زعيم طالبان السابق الملا محمد عمر بقوله تعالى: "إنما المشركون نجس" بعدم جواز مصافحة الغربيين ذكوراً وإناثاً لأنهم مشركون ومُتدنِّسون بنجاسة مادية، ولهذا قرر الإقامة في مدنية قندهار طوال حكم طالبان الأول لكي لا يقابل غير المسلمين، فقد رفض الإقامة في كابول العاصمة، حيث يوجد أجانب من الإنجليز والألمان والأمريكان لأنهم سيصافحونه حين يزورونه! بالنسبة لزعيم طالبان السابق، الغربيون ليسوا أهل كتاب، بل هم مشركون ملطخون بنجاسة مادية ولذلك لا ينبغي مصافحتهم مع أن جمهور العلماء فسروا هذه الآية الكريمة بالنجاسة المعنوية وأجاز الإسلام زواج الكتابيات! 

ويبدو أن نائب رئيس الحكومة بالوكالة الملا عبد الغني برادر، صهر الملا عمر، وأحد الأعضاء الأربعة الذين أسسوا حركة طالبان سنة 1994 لا يعمل الآن بمنهج زعيمه السابق تجاه مقابلة غير المسلمين، حيث زار عواصم عالمية والتقى بمسؤولين هناك. ففي 28 يوليو/تموز عام 2021 ترأس الملا برادر وفداً طالبانياً إلى الصين، حيث التقوا بوزير الخارجية الصيني ونائبه والممثل الصيني الخاص لشؤون أفغانستان. كما خاض الملا برادر جولات معقدة مع إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لوضع آليات الانسحاب التي انتهت بتوقيع اتفاقية الانسحاب الأمريكي الكامل من أفغانستان في 29 فبراير/شباط عام 2020 على أن يتم الانسحاب في غضون 14 شهراً. وقد اعتبرت حينها إدارة ترامب هذه الاتفاقية كخطوة مهمة نحو تحقيق السلام. وفي 25 أغسطس/آب عام 2021 عقد الملا عبد الغني برادر اجتماعاً سرياً في مطار كابول مع مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وليام برنز، وهذا يمثل أول لقاء رفيع المستوى بين مسؤول أمريكي وآخر طالباني منذ دخول عناصره العاصمة الأفغانية. 

لا شك أن الملا عبد الغني برادر يمثل الجناح التقدمي البراغماتي للحركة لاسيما طالبان المهجر الذين أقاموا في الدوحة منذ عام 2013 وانفتحت عيونهم على تضاريس وكهوف السياسة الدولية وتعقيداتها وقد زاروا عدة دول لبناء علاقات معها وللحصول على اعتراف دولي لحركة طالبان بمباركة زعيم الطالبان الحالي المولوي هبة الله أخوند زاده.

بموازاة هذا الجناح توجد فئة متشددة داخل الحركة ممن لم يحظوا بتجربة الملا برادر الدولية لاسيما قادة القتال المحليين الذين يدير كل واحد منهم الآلاف من المسلحين والذين أبدوا استياءهم وغضبهم من المباحثات التي كانت يجريها الملا برادر مع إدارة ترامب لأن هذه المفاوضات كانت تمثل في وجهة نظرهم تنازلاً عن مبادئ الحركة، ولذلك انضم فريق منهم إلى تنظيم "داعش" لأنه أكثر انسجاماً مع قناعاتهم الفكرية.

اغتيال الزعيم

وفي شهر أغسطس عام 2019 أعلنت مجموعة داخل حركة طالبان مسؤوليتها عن محاولة اغتيال المولوي هبة الله أخوند زاده، زعيم طالبان الحالي. وقد كان الملا أخوند زاده رئيساً للمحاكم الشرعية في حكم طالبان الأول ثم لجأ إلى باكستان بعد سقوط نظام طالبان عام 2001، وبعد تعيينه زعيماً لطالبان عام 2016 انشق من الحركة فصيل عسكري بقيادة نقيب الله هونر وأعلن الجهاد ضد طالبان متهماً زعيمها الجديد بالحصول على هذا المنصب بتدبير من أجهزة المخابرات الباكستانية.       
إن هذه الانقسامات داخل الحركة لدواعٍ أيديولوجية وغيرها هي من أخطر التحديات التي قد تُفْشِل أو تُبْطِئ مسيرة حكم طالبان الجديد لأنه لا توجد لدى هذه الفصائل المعارضة أية وسيلة أخرى للتعبير عن معارضتهم سوى إعلان الجهاد ضد الإمارة الإسلامية الجديدة بذريعة الردة أو موالاة الكفار أو العمالة للغرب وغيرها من الاتهامات التي تعدها الجماعات الجهادية من نواقض الإسلام مما يسهل عليها مهمة تجييش الشبان الأفغان المحبطين مادياً ونفسياً واجتماعياً للجهاد ضد الولاية الإسلامية الجديدة. فكما كان الطالبان يرفعون راية الجهاد ضد حكومة الرئيس حامد كرزاي وأشرف غني بذريعة الردة والعمالة للقوى الغربية فسوف تستعمل فصائل طالبان المنشقة نفس الاستراتيجية ضدهم، وهذا من شأنه أن يشعل حرباً أهلية جديدة في أفغانستان إذا لم يتم إقناعهم فكرياً وتلبية مطالبهم الأخرى.     

طالبان والقاعدة

ومن جهة أخرى تشمل الاتفاقية المبرمة بين الحكومة الأمريكية وحركة طالبان بنوداً تنص على ألا تكون أفغانستان الجديدة مكاناً لتحضير هجمات إرهابية في الدول الغربية وأن تقطع الحركة علاقاتها مع تنظيم القاعدة الذي أعلن زعيمه أيمن الظواهري دعمه لزعيم طالبان المولوي هبة الله أخوند زاده فور تعيينه عام 2016 بل وأطلق عليه لقب "أمير المؤمنين". فحركة طالبان مضطرة الآن لقطع علاقاتها مع تنظيم القاعدة لتنفيذ الاتفاقية واحترام التزاماتها الدولية ولتفادي عزلها أو محاربتها دولياً، وهذا قد تدفع القاعدة إلى إعلان الجهاد ضد الطالبان الجدد بمبررات الخيانة والعمالة لغير المسلمين كما فعل تنظيم داعش الذي يصف زعيم طالبان الحالي بـ"طاغية طالبان" ويعلن الجهاد ضد حركته. وإن الهجوم الدامي في مطار كابول الذي نفذه تنظيم داعش خراسان بعد استيلاء طالبان على كابول وأثناء تواجد القوات الأمريكية في المطار دليل على مدى خطورة التهديد الذي يمثله هذا التنظيم على الإمارة الإسلامية الوليدة.   

وأخيراً، فالطالبان الجدد قد كسبوا الشوط الأول في كفاحهم لإقامة دولتهم الثانية بالسلاح والدبلوماسية وعليهم الآن أن يستعدوا لصراعات الشوط الأخير المتمثلة في إدارة البلاد والعباد بطريقة ترضي الشعب الأفغاني بجميع معتقداته وأعراقه رجالاً ونساءً عبر حل مشاكلهم العالقة والملحة، وكذلك إحلال الأمن والأمان في ربوع أفغانستان الجديدة عبر وضع حد بصورة نهائية للتهديد الذي يمثله تنظيم داعش خراسان وغيره من الجماعات الجهادية.    

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبدالعزيز غي
أستاذ في جامعة ولاية بنسلفانيا الأمريكية
كندي الجنسية، حاصل على الليسانس والماجستير والدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية من جامعة جنيف بسويسرا، وعلى دبلوم عالٍ في تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها، وشهادة الليسانس في اللغة العربية. عاش 5 سنوات في الشرق الأوسط، و12 سنة في أوروبا، وأكثر من نصف عقد في أمريكا الشمالية. مهتم بحوار الأديان والثقافات والشعوب، وحالياً يعمل أستاذاً لدراسات الأديان واللغة العربية في جامعة ولاية بنسلفانيا وفي كلية نازاريث في أمريكا.
تحميل المزيد