إذا ما حاولنا إماطة اللثام عن مفهومين لصيقين ببعضهما البعض، وسبر أغوار العلاقة المتشابكة والمتداخلة فيما بينها في الحين نفسه، سنجد أنهما يتلازمان في "الزمكان" ويختلفان في شرح وفهم أبعاد كل منهما.
فبالرغم من كثرة الدراسات والبحوث المتعلقة بهذين المفهومين فإنها لم تلتقي عند مفهوم ثابت يحددهما، بل كانت هناك اختلافات وتناقضات بين الباحثين والدارسين في هذا المجال.
لذلك، وفي هذا الموضوع بالذات، سوف نحاول تقريب المفاهيم المتباينة وشرحها، وكذا تحديد معالم العلاقة التي يمكن أن تكون قائمة بينهما، بغية الإفادة والاستفادة، خاصة أننا نعيش في زمن أضحى فيه "المثقف" و"المجتمع" عنصرين لا بد من اتحادهما، وتطابقهما لتغيير أي واقع والسير به للأمام.
وعليه سنقوم بوضع إشكالات وفرضيات وجعلها الخطوط العريضة التي من خلالها سنبني الموضوع:
– المثقف، من يكون؟
– ما هو المجتمع؟
– أي علاقة يمكن أن تقوم بين كل من المفهومين؟ وهل يمكن لها أن تساهم في بلورة الأفكار والمد بالحلول؟
– فرضيات
– يمكن أن يصبح المثقف مسيراً للمجتمع، تحت طائلة تغييره وجعله أفضل.
مفهوم المثقف
إن المطلع والملم بمفهوم "المثقف" يجد أن جل التعريفات غير واضحة المعالم أو سهلة الفهم، خصوصاً أن الموضوع هو حقل متغير، ومليء بالأفكار المتناقضة والمدركات التي ترتبط مباشرة بشخص "المثقف"، والمواضيع المتناولة، لاسيما أن تناول طرح كهذا ومعالجته لا بد أن يأخذ أبعاداً وتشعّبات متعددة، ويتجلى ذلك، في تحديد مفهوم المثقف وأصنافه.
فماذا نعني إذاً بالمثقف، ومَن نقصد؟
المثقف هنا هو فرد يتميز عن الآخرين بقابليته على التفكير، وإدراك التحديات التي تواجه محيطه، وكذا امتلاكه لنظرة ثاقبة وواسعة تدرس الحاضر والمستقبل، وإمكانية تناوله لمواقف وقضايا حساسة وحاسمة.
فالإنسان المثقف لطالما كان شخصاً "حشرياً" يفرض نفسه ووجوده في بيئته، وهو بهذا غير محتاج إلى تحديد نفسه، لأنه يعلن عن نفسه عبر ممارسته العلمية والأكاديمية، وإن كانت هذه الممارسات تختلف من مثقف لآخر، بسبب تغير العصر والحياة بصفة عامة.
من جهة أخرى، تبقى مرتكزات أي مثقف هي رغبته وإصراره على كشف الحقيقة، وكذا الشجاعة في النقد، والتحليل البناء إلى أبعد الحدود، والغرض من ذلك هو المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف سداً منيعاً أمام بناء أي أمة.
لذلك نلحظ أن المثقف هو عنصر أساسي في أي حضارة تسعى إلى التقدم والازدهار، وهو ما يجعلنا نتساءل عن علاقة المثقف بالمجتمع، فهذا المفهوم الأخير يمكن حصر تعريفه بـ"مجموعة من الأفراد والجماعات تعيش في موقع جغرافي واحد، تربط بينهما علاقات اجتماعية وثقافية ودينية".
ولن تتبين علاقة مع المثقف أكثر إلا مع تحديد محركات الواقع، فإذا نظرنا وقمنا بشرح متطلبات الواقع ومرتكزاته سنرى أن الواقع مرتبط بالمعرفة والإدراك، على أساس أن المفهومين السالف ذكرهما "المثقف، الواقع" هما مرتبطان بالعقل والوعي.
الفكر المبدع والمحصن والمنتج لا ينمو إلا في الوسط المجتمعي الطبيعي الملائم، الذي تتوافر فيه حرية التعبير، وينعتق من الكبت، والقمع بمختلف أنواعه، فالواقع هنا يختلف باختلاف آلية إدراكه، ومستوى ذلك الإدراك لمعرفته، وبحسب هذه الآليات والإدراكات التي تحدد عناصر الواقع، سوف تتعدد إذاً أشكال وحالات الواقع: واقع اجتماعي، واقع سياسي، واقع إنساني… من هذا الشرح لارتباطات الواقع يتضح أن الواقع يتحرك ويتفاعل بتحركات ومعارف ومدركات المثقف، وهي بذلك علاقة تفاعل وانسجام؛ لذلك يبقى المثقف هو الذي يخلق واقعه، بمعنى آخر تبعية الواقع للمثقف، وليس العكس.
الخلاصة
من هذا المنطلق يتضح أن الواقع هو حلقة الوصل التي يجب أن تقوم بين المثقف والمجتمع، لذلك نجزم بأن عدم وجود مثقف واعٍ ومدرك لكل حيثيات مجتمعه، وأيضاً من دون تلاحم المجتمع مع مثقفيه وإعطائهم القيمة التي يستحقون لا يمكن أن يكون لدينا مجتمع واعٍ وقادر على التقدم، وتجاوز كل الصعاب، ليبقى المثقف حلقة مفرغة تدور في فلك المجتمع والواقع دون أي نتيجة.
في الختام، نخلص إلى أن "المثقف" و"المجتمع" هما مفهومان متلاصقان عبر كل الأزمنة، سواء في الماضي أو الحاضر أو حتى المستقبل، وهو ما يمكن أن نخلق به بيئة سليمة في كل النواحي، ونعالج كل القضايا العالقة، والإشكالات المستعصية. فهل يمكن أن نستفيد من ذلك التفاعل الإيجابي الذي يمكن أن يحصل بين "المثقف والمجتمع"، إذا تحققت الشروط والروابط؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.