دَرجت الأنظمة المستبدة على تخليق نماذج من شيوخ السلطان في معاملها، يرتدون العمامات ويبتسمون بوقار امتثالاً للشرع، يطمئنون العوام، ويُعطون المشروعية لقراراتها، ويبررون جرائمها ولو كانت قتل النفس التي حرم الله، في مجازر باستخدام الرصاص، أو القصف بالكيماوي، أو بتنفيذ أحكام إعدام جائرة أقرتها محاكم مشبوهة.
لا تختلف أدوارهم هنا عن أقراص الترامادول التي يتم توزيعها على الجنود، لتمنَحهم الجرأة أمام مشاهد القتل، فكلاهما يُغيبان العقل، أحدهما بشكل دائم، بينما المخدر يزول تأثيره.
ومعيار مشايخ السلطة أنك تفتقدهم في النصح والنقد، ولا تجدهم إلا حيث يأمر السلطان أو ينهى أو حيث يحب ويكره، فهو لا ينطق إلا بما يوافق هوى الحاكم، فلا يغضبه، ولا يقول ما يسوءه.
في مقابل هذه النماذج كان اعتزال السلاطين سمة أهل العلم والورع تاريخياً، امتثالاً للحديث الشريف: "(…) ومن أتى السلطان افتتن".
في أحد تصريحاته المثيرة للجدل قال شوقي علام مفتي الديار المصرية، الذي عيّنه الرئيس الراحل محمد مرسي، في فبراير/شباط 2013، ومدد له السيسي، ثم جدد له عاماً في منصبه، خلافاً للدستور: "إن في مصر ضمانات لأحكام الإعدام لا توجد في دولة أخرى"! وذلك رداً على المطالب المتكررة بإلغاء عقوبة الإعدام.
وأضاف علام -بثقة وخيلاء- عبر إحدى القنوات المحلية، في 27 أغسطس/آب 2020، أن أعضاء لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الأوروبي وجهوا له -قبل سنوات- بعض الأسئلة التي جمعها في 4 ورقات كبيرة، عن هذه القضية.
وطمأن علام هؤلاء- حينها- بشأن وجود ضمانات قانونية للإعدام، وأن الفارق شاسع بين مصر- التي تأتي في صدارة الدول الأكثر تنفيذاً لأحكام الإعدام- والدول الأخرى، موضحاً: "عندنا ضمانات قانونية وإجرائية، بالإضافة إلى الرأي الاستشاري للمفتي، ثم الضمانات التحقيقية، ولدينا احترافية كبيرة".
ولم ينسَ المفتي الإشادة بالدولة- التي تغالي في تنفيذ الإعدامات- والادعاء أن الدين الإسلامي يحض على الإعدامات، الدين أم الدولة هي التي تحض؟.
ولم يختلف رأي المفتي الديني- في قضية الإعدامات- عن رأي السلطة، في رفض وقف عمليات الإعدام التي ازدادت وتيرتها بشكل مرعب، بإشارة مباشرة من الرئيس السيسي في جنازة النائب العام الأسبق هشام بركات، في 30 يونيو/حزيران 2015، حينما قال: "مش هينفع إن إحنا نمشي كده، إحنا بنتكلم في أكثر من سنتين، لا المحاكم بالطريقة دي وفي الظروف دي هتنفع، ولا القوانين في الظروف دي هتنفع".
وكرر السيسي في فبراير/شباط 2019، خلال مؤتمر صحفي حضره قادة أوروبيون، خلال القمة العربية الأوروبية في شرم الشيخ، قوله "إنها تتم وفق القانون وثقافة المنطقة"، وأضاف أن الإعدامات جزء من "إنسانيتنا" المختلفة عن "إنسانيتكم [الأوروبية]".
لكن أحداً من القادة الموقرين لم يسأله عن الإنسانية المزعومة التي تبيح قتل المعارضين في الميادين، بعد الانقلاب عليهم، وإعدام من نجا منهم.
ضمانات إجرائية واحترافية
في 24 مارس/آذار 2014، قضت محكمة جنايات المنيا برئاسة القاضي سعيد يوسف صبرة بإحالة أوراق 529 من معارضي النظام في المحافظة إلى المفتي، وقضت نهائياً بإعدام 37 شخصاً منهم، قبل أن تحيل 682 متهماً في قضية أحداث عنف المنيا للمفتي أيضاً. وأهاب القاضي بعد النطق بالحكم بالنيابة العامة، الطعن على الحكم أمام محكمة النقض، لأن المحكمة استعملت الرأفة في غير محلها وعلى غير أهلها!
النقض في تلك المرحلة ألغت الأحكام برمتها، قبل أن تغير توجهها بضغوط سياسية، وتصّدق على الأحكام لاحقاً.
الغريب في تلك القضية أن القاضي أطلق حكمه بإعدام المئات في جلسة واحدة، مُنع فيها المحامون من الترافع ولم تقدم النيابة أي أدلة تدينهم.
نفس القاضي كان قد برأ- سابقاً- مدير أمن بني سويف من تهمة قتل المتظاهرين في أحداث ثورة 25 يناير، وأحيل بعد هذه الفضائح إلى الصلاحية، وسط حديث عن وجود خلل في قواه العقلية.
أما في قضية فض ميدان رابعة، فلم يحضر 6 أشخاص، ضمن 12 شخصاً محكوماً عليهم بالإعدام، لحظة الفض، لأنهم كانوا قبلها بأسابيع، رهن الاعتقال، ومنهم شقيقان، هما محمد ومصطفى الفرماوي، كانا على ذمة قضية أخرى، رغم ذلك صّدق المفتي على الإعدامات كما صدّق على عدد كبير من إعدامات المنيا.
في قضية أخرى، أبلغ المتهم محمود الأحمدي، قاضي التحقيقات أثناء جلسة المحاكمة يوم 16/8/2016 بما تعرض له من تعذيب داخل مقر الأمن الوطني في لاظوغلي، وكشف عن آثار التعذيب في ساقه، وقال: "اتكهربنا كهربا تكفي مصر لمدة عشرين سنة"، وأضاف: "إديني يا فندم صاعق كهربائي وأخليلك أي حد هنا يعترف إن هو اللي قتل السادات".
أما أحمد وهدان فتم القبض عليه في نفس القضية، قبل اغتيال النائب العام بـ45 يوماً، والاثنان تم تنفيذ حكم الإعدام بحقهما في فبراير/شباط 2019، ضمن تسعة شبان آخرين، تتراوح أعمارهم بين 23 و30 سنة، صّدق المفتي على إعدامهم جميعاً.
ومن ضمن قرارات قضائية، بإحالة نحو 1814 شخصاً إلى مفتي الجمهورية (الذي يعد رأيه استشارياً)، وافق المفتي على إعدام نحو 757 منهم، ورفض ما يقارب 1100، وحتى من صدّق على إعدامهم قُبل الطعن من أغلبهم، فأين هي الضمانات الإجرائية والاحترافية؟
المفتي والإعدامات
معلوم أن رأي المفتي استشاري، وللقاضي ألا يأخذ به، لكنه في الغالب يأخذ به ليشركه في حكمه الجائر، ليكون حجة له، لعله ينجيه لاحقاً إذا اختلفت الأمور، وهو ما يظهر في أحكام الإعدام الصادرة من المحاكم والقضاة مؤخراً، والذي يستعمل في منطوق حكمه موافقة مفتي الجمهورية.
وحتى تتخيل بوضوح حجم الجريمة التي يشارك فيها مفتي الجمهورية، فيكفيك أن تعلم أنه منذ انقلاب 2013 وحتى أغسطس/آب 2021، وافق المفتي شوقي علام على إعدام أكثر من 1600 مواطن في قضايا ذات طابع سياسي فقط! ناهيك عن القضايا ذات الطابع الجنائي، لتحتل مصر في عهد هذا المفتي المراتب الأولى في الدول التي تصدر أحكاماً بالإعدام على مستوى العالم.
وكانت "كوميتي فور جستس" قد رصدت تنفيذ 87 حكم إعدام في مصر خلال شهري أكتوبر/تشرين الأول، ونوفمبر/تشرين الثاني 2020 فقط، بينهم 17 سياسياً.
وأشارت المنظمة لذلك في بيانٍ لمطالبات بوقف تنفيذ عقوبة الإعدام، خصوصاً في القضايا ذات الطابع السياسي، والتي تعتمد على تحريات الأجهزة الأمنية، وتفتقر المحاكمات فيها إلى معايير المحاكمة العادلة المعترف بها دولياً، وطالبت بتحرك المجتمع الدولي لوقف تلك الانتهاكات الفجة للحق في الحياة.
كما اعتبرت المنظمة أن تنفيذ إعدامات كرداسة في رمضان 2021، التي شملت 17 شخصاً آخرين، تُعد استمراراً لمسلسل إزهاق الأرواح بدون دليل. وأفادت أنها استطاعت الحصول على شهادات موثقة تنفي الاتهامات عن أحد المحكوم عليهم بالإعدام، وهو المتهم عبد الرحيم عبد الحليم جبريل (81 عاماً)، ولكن لم تأخذ المحكمة بها، وحكمت بإعدامه.
الحق في الحياة
على الرغم من أن القانون الدولي ينص على أن استخدام عقوبة الإعدام يجب أن يقتصر على الجرائم الأشد خطورة، أي القتل العمد، فإننا نعتقد أن عقوبة الإعدام ليست هي الحل مطلقاً وأنها أحد أعراض ظاهرة العنف، وليست حلاً لها.
وبرأي البعض، فإن الرئيس السيسي كقائد عسكري لم يشارك في معركة حقيقية واحدة، كان مدفوعاً للقتل في الميادين، لتعويض النقص، ووضع إنجازه بأرقام ضحاياه في سجله العسكري. كما كان مدفوعاً إليه بالخوف، ففشل انقلابه يعني الموت، ومدفوعاً إليه بالتخويف، فالقمع صنع الاستقرار- حتى الآن- وقطع الطريق على محاولة استنساخ الثورة مرة أخرى، ولولاه ما قبل الشعب بإجراءات اقتصادية صادمة مثل تعويم الجنيه، وغيرها من السياسات التي نشرت الجوع وعممت الفقر، وأدت إلى التنازل عن تيران وصنافير.
لكن ما الذي يدفع مفتياً لشرعنة القتل؟
في 12 أغسطس/آب 2021، أصدر الرئيس السيسي، قراراً جمهورياً بتجديد تعيين شوقي علام مفتياً للديار المصرية، لمدة عام، بعدما بلغ سن التقاعد، رغم وجود تعديل تشريعي يجعل اختيار المفتي بالانتخاب من قبل أعضاء هيئة كبار العلماء، وليس بالتعيين.
ورفض السيسي اعتماد أيٍّ من المرشحين- الثلاثة- الذين أرسلت مشيخة الأزهر أسماءهم للرئاسة في وقت سابق. وقال شوقي علام في بيان على إثر ذلك، إن "هذه الثقة الغالية من رئيس الجمهورية إنما تمثل حافزاً قوياً لاستكمال مسيرة خدمة الوطن".
وكأن خدمة الوطن لا تكون إلا بالمزيد من أرقام القتلى وجثث الموتى؟! وهو ما يناقض الشريعة الإسلامية، التي ما أتت إلا لتحمي حق الحياة وتعصمها، وتحافظ على الضَّروريات الخمس، وهي: الدِّين، والنَّفْس، والنَّسْل (العِرض)، والمال، والعقل.
ثم ما الضامن الذي يحميه من الله- برأيه- ويحول بينه وبين سخط ولعنات ودعوات ضحاياه وأسرهم وأطفالهم وأمهاتهم وآبائهم، التي ستطارده حياً وميتاً؟.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.