لا يزال المؤمنون بنظرية المؤامرة التي تدور حول انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان يبحثون عن حجج ومبررات تتناغم مع الإيمان بالقوة الأمريكية التي تفوق كل قوة؛ حيث إن البعض يعتقد أن الولايات المتحدة انسحبت من أفغانستان بناء على خطة مُعدَّة بالأصل، لدرجة تجعلهم يفكرون بأن ما خسرته الولايات المتحدة إثر هذا الانسحاب من تدمير لصورتها وسحق لاعتبارها، ليس سوى استثمار في خطة الانسحاب.
على أي حال ليفكروا كما يشاؤون، لكن عليهم أن يعلموا أنه لا يوجد أحد في الولايات المتحدة يفكر بتلك الطريقة. بغض النظر عن التأثير السلبي الذي لحق بالولايات المتحدة على مستوى العالم، فقد وقع اللاعبون السياسيون في الداخل الأمريكي في خطر كبير بدأ يهدد حياتهم السياسية.
إذن ما هي تلك الخطة التي يمكن أن تستحق المخاطرة بدفع مثل هذا الثمن الباهظ؟
على صعيد آخر، يجب التوضيح بأننا حينما نقول إن الولايات المتحدة قد خسرت الحرب على الأرض أو تعرضت لهزيمة بالفعل في هذه الحرب، فإن هذا لا يعني بأي حال أنها فقدت قوتها أو أن هيمنتها قد انتهت. إضافة لذلك، فإن الولايات المتحدة لم تتخلَّ بشكل تام عن خططها وحساباتها في أفغانستان. لكنها بطبيعة الحال لن تتمكن من تأسيس نظام حليف أو تابع لها في أفغانستان بعدما سيطرت طالبان على مفاصل الحكم في البلاد. لكن هذا لا يغير من حقيقة أنها لا تزال تتمتع بأكبر قوة تدميرية في العالم وأن لديها القدرة على تنفيذ أكثر العمليات فاعلية ضمن أجزاء كثيرة حول العالم.
إذا كنا سنتحدث عن علاقة مستقبلية في المرحلة القادمة بين الولايات المتحدة وأفغانستان، فيجب أن تكون في إطار احترام إرادة وسيادة الشعب الأفغاني، وفي هذا السياق بالذات يمكن أن تكون لديها العديد من العلاقات التي يمكن أن تحافظ عليها، والعديد من الحسابات التي يمكن أن تضعها. إلا أن هذه الحسابات لن تتم بصفتها دولة محتلة، بل من خلال مستوى علاقة ندية وشرعية بين الإدارتين الأمريكية والأفغانية.
أما الوجه الآخر لنظريات المؤامرة، فهو ذاك الذي يطلب منا تصديق أن طالبان لم تنتصر في الحقيقة، بل الصين وروسيا. بالطبع يخيم على هذا التصور إيمان قطعي وخط أحمر لا يمكن تجاوزه في أن الولايات لا يمكن أن تخسر، وأن طالبان لا يمكن أن تحقق النصر بوضعها "البدائي". أما ما يجعلهم يظنون بأن ما يقف وراء انتصار طالبان في الظاهر هو الصين ودعمها، فهو التفكير بأن الصين وروسيا سيملآن الفجوة التي خلفتها الولايات المتحدة ويستفيدان من فراغها. وبالطبع لا يعتبر ذلك تفكيراً خاطئاً، فعندما تنسحب الولايات المتحدة يمكن للصين بالفعل إقامة علاقة جيدة مع أفغانستان ووضع خطط بشأن مناجم البلاد والدخول في محادثات مباشرة مع الإدارة الإفغانية في هذا الصدد، وبالتالي كسب الكثير على المدى الطويل. إلا أن هذا لا يعني أن الصين هي التي قاتلت أو كسبت الحرب.
ما نريد قوله إن من يعتقد أن المنتصر في الحرب ضد الولايات المتحدة هي الصين أو روسيا، لا الشعب الأفغاني وطالبان، فإنه يكفر بقوة وجلد الشعب الأفغاني ويستبدل ذلك بالإيمان بقوة عظمى أياً كانت.
إضافة لذلك، فإن ما يدعو للغرابة في الحقيقة هو التفكير بأن طالبان التي استطاعت طرد الولايات المتحدة من أفغانستان، ستقوم بجلب الصين أو روسيا لهذه البلاد وتعيينهم محتلّاً جديداً عليها، بعد أن تمكنت أصلاً من طرد محتل أقوى! لا سيما أن أهم قيمة تحفز مقاومة طالبان وترسي شرعيتها اليوم هي تحرير البلاد من المحتل والتغلب عليه، وبالطبع فإن طالبان لن تضيع هذه القيمة وتقول للصين وروسيا أهلاً بكم كمحتل جديد خلفاً للولايات المتحدة.
في المقابل، نعم ستكون روسيا والصين بالتأكيد سعيدتين في ظل المعادلة الجديدة في أفغانستان، وابتعاد الوجود الأمريكي عنهما، إلا أن هذا لا يعني أنهما سيكونان بديلين عنها بأي حال.
هناك أمر آخر، وهو أن أفغانستان لديها موارد غنية للغاية والصين مهتمة بذلك، وهذا أمر صحيح وواقع. وكل من لديه خطط في أفغانستان يضع عينه على هذه الموارد، لكن علينا أن نعلم أنه إلى الآن لم يحقق أي أحد أي ربح يذكر مقابل الكم الهائل من الاستثمار الذي تم إنفاقه في أفغانستان.
الصين وغيرها من البلدان ستظهر اهتماماً إزاء هذه الثروات الموجودة في باطن الأرض الأفغانية. لكن يتوقع من الجميع تعلم الدرس جيداً، وأن هذا الاهتمام إذا تحول إلى أطماع ومحاولة للسطو والسرقة، فلن يستفيد أي أحد من ذلك إطلاقاً.
لا شك أن أفغانستان ستحقق المكاسب من خلال تشغيل مناجمها الخاصة. وسيكون بمقدور الجميع لا الصين وحدها شراء هذه المعادن ضمن السوق الحرة. المهم هو ألا يكون الاهتمام على صورة محاولة الاستيلاء على هذه الموارد أو احتلال البلد وسلبه حقه في تقييم هذه الموارد والثروات.
حينما يتم تقييم الموارد الباطنية الغنية في أفغانستان من قِبل شعبها، فلن تحتاج البلاد إلى شخص أو طرف آخر. ولذا فإن تقييم هذه الثروات من أجل تحقيق تنمية في أفغانستان هو أمر مهم للغاية، ويمكن لأفغانستان في المرحلة القادمة أن تقيم ذلك بجدية من أجل تنمية البلاد وفق إرادة مستقلة، إلى جانب العمليات التجارية أو الاستثمار المشترك الذي يمكن أن تعقده مع دول أخرى.
حينما تنجح أفغانستان في ذلك فإنها ستوقف على الفور عجلة الهجرة الاقتصادية من أفغانستان نحو دول العالم، بل ربما تنجح في صنع هجرة عكسية.
حتى الآن لم تحظَ هذه الثروات الباطنية بتقييم جاد وصحيح، بسبب الحروب المستمرة والاضطرابات الداخلية. وفي الواقع كان بإمكان الولايات المتحدة إن كانت تحتاج بشدة لهذه الموارد أن تستفيد منها في إطار شرعي وتعامل تجاري معتبر، في ضوء احترام حقوق الشعب الأفغاني في الملكية والسيادة بدلاً من احتلال بلده. لو أن الولايات المتحدة فعلت ذلك من الأساس لما اضطرت اليوم لتحمل هذا النوع من المغامرات المخيبة للآمال.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.