بين الآلة الإسرائيلية “والإنسان” الفلسطيني.. كيف تهزم عدوك بملعقة؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/09/07 الساعة 13:20 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/09/07 الساعة 13:29 بتوقيت غرينتش
بين الآلة الإسرائيلية "والإنسان" الفلسطيني.. كيف تهزم عدوك بملعقة؟

ملعقة، ومساجين، لا يعرف معظمهم عن العالم شيئاً منذ عشرين سنة على الأقل، لم يكونوا موجودين حين دخل الإنترنت فلسطين، محمود العارضة، الشاب الذي كان في العشرينات من عمره، حين دخل السجون الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، كان أبي على الطرف الآخر، يتزوج الفتاة التي كتبها الله من نصيبه، ولم يكن كاتب هذا المقال وُلد بعد، عُمره في الأسر أكبر من عمري في الحياة عموماً، الرجل الذي حُرم من الحياة منذ 25 عاماً، وأنا عمري أربعة وعشرون.

في 2002، بينما كنتُ في الروضة، في الحضَانة، في الصف الثاني التمهيدي، كان محمد العارضة، شقيق محمود، واقفاً أمام المحكمة الإسرائيلية، يتلقى حكماً بالسجن المؤبد، ومنذ ذلك الوقت، دخلت الابتدائية ست سنوات، والإعدادية ثلاث سنوات، والثانوية ثلاث سنوات، والجامعة عامين تخللهما سجني نصف عام، وخرجت إلى بلاد الله، وأنا في الغربة منذ 5 سنوات، تعلمت اللغة، ودخلت الجامعة، وهذا العام أتخرج، ومنذ ذلك الوقت، ومحمد العارضة في سجنه، لم يفعل شيئاً واحداً سوى رؤية سجانه ليل نهار.

وبعده كان يعقوب قادري المعتقل منذ 2003، المحكوم كذلك بالسجن مدى الحياة، وأيهم كمنجي، المعتقل منذ 2006، وزكريا زبيدي ومناضل أنفيعات، كل هؤلاء، الذين لا يعلمون عن الدنيا إلا القليل جداً، تخيلهم، في زنزانة مصمَتة وصامتة، أمام آلة الحرب الإسرائيلية، التي بنت سجن جلبوع حين بنته، بواسطة خبراء من أيرلندا، وقالت عنه إنه أشد السجون تحصيناً في العالم؛ إذ لا تستطيع حشرةٌ أن تدخل أو تخرج، أن تقف على الحائط أو تستلقي على الأرض، إلا ويعلم السجان بأمرها.

تخيّل ستة رجال يحفرون نفقاً، ولا يدري السجان عنه شيئاً، كيف حفروه؟ ومتى؟ وكم استغرق حفره؟ وإن كانت حفرةً تصل إلى تجويف تحت الزنزانة، فكيف عرفوا؟ وكيف تخيلوا أن على الجهة الأخرى مكان سيتمكنون من حفره أيضاً، ليخرجوا خارج أسوار السجن بأمتار قليلة، وعلى مرأى من برج المراقبة؟ كيف فعلوا كل ذلك؟ أجل، إنه أمر لا يخضع للمنطق، ولا يجب أن يتسم بالواقعية.

الذين يقاومون لا يفكرون في الإمكانيات كثيراً، وإنما يفكرون بالهدف، ولا تشكل الوسائل عائقاً أمامهم، فيستطيعون أن يعطلوا دبابةً بحجر، أو يصيبوا جندياً بمقلاع، أو يحرقوا مصفحةً بمولوتوف، أو ينتزعوا حريتهم بعد عشرين سنةً من الأسر، مع حكم بالمؤبد، من سجنٍ شديد الحراسة، بملعقة!

والأساطير التي يروج لها الاحتلال تندحر يوماً بعد يوم، على ضخامتها، وحجم البروباغاندا المسخّرة لها، وبأدوات لا تتعدى أن تكون إرادةً في قلب من يريد، فالذين هدموا خط بارليف المنيع، كان بخرطوم مياه، والذين تجاوزوا القبة الحديدية التي تجعل من الأراضي المحتلة أكثر المناطق تحصيناً في العالم، هزموها برشقات من صواريخ صُنعت تحت الأرض، والذين حصلوا على بيانات لجنود الاحتلال، عرفوها من خلال حسابات مزيّفة، كما يوقع المراهقون أصدقاءهم، والذين تحرروا من جلبوع المشدد، كانوا يحفرون بأيديهم، أو بملعقة أو بجاروف في أحسن الأحوال.

هذا هو مربط الفرس، أن تهزم احتلالاً باللاشيء، بأصغر شيءٍ في يدك، أن تمحو الأكذوبة الكبيرة بصدقٍ صغيرٍ في قلبك، أن تفجّر الفقاعة المتضخمة بشكة دبّوس، أن تمرّغ في التراب أوجُه من سرقوه منك، فتحفر نفقاً في أرضٍ احتلتها عصابات قبل 73 عاماً، وعلى الرغم من احتلالهم إياها، فإنك تحفظها أكثر منهم، وتعرف -رغم حرمانك منها- أين تضع يدك بالضبط، فتجد الشمس على الجانب الآخر.

أمتار قليلة بين السجن مدى الحياة، والحياة نفسها، بين أصوات الحديد والقضبان والسجّان والحُراس، وصوت أنفاسك الواضح بلا كتمان، والصمت المخيّم على الفضاء الحر، وجريِك في البلاد التي يراقبون كل شبرٍ فيها، عدا الخطوات التي تخطوها ولا يستطيعون تقفّي آثارها، لأنك لا تستخدم قدميك في انتزاع حريتك بقدر ما تستخدم صدرك المعبأ بالمقاومة.

هذا الحلم الذي لولا الصور ما صدقناه، لم نكن لنتخيله في الأفلام حتى، سيكون تصنيف الفيلم أنه من باب الفانتازيا، الخيال العلمي، أو التاريخ البعيد، حين يهرب مجرمو العصابات عبر اقتحام السجن من قبَل أصدقائهم في الخارج، أما هؤلاء؟ فأي فيلم يستوعب ذلك السيناريو؟! حتى الفيلم قد لا يحظى بمشاهدات مرتفعة، لأنه من نوع الاستهزاء بعقل الجمهور، والتصور أنه مغفل، فلن يصدق أبداً أن ستة رجال هربوا بذلك الشكل، لكن ما حدث هذه المرة، أن الرجال قدموا السيناريو، ونفذوا العملية، ولم يتركوا للسينما سوى أن تعيد تمثيل ما فعلوه حقيقةً، ثم يعرضوه في حيرةٍ تحول دون تحديد نوعه، فهو يصلح أن يكون خيالاً علمياً، وأن يكون رومانسياً لرجال يحبون الحرية، وأن يكون غنائياً على وقع أقدامهم في الأرض، وكل هذا من بطولة "الرجال الستة"، أو يمكن أن يكون كوميدياً، شديد الفكاهة، من بطولة "إسرائيل".

أسلاك شائكة، وبرج مراقبة، ومجسّات تسجل كل حركة، وكاميرات تعدّ كل خطوة، وجنود يراقبون كل مكان، وآذان تتنصت على الجدران، ودولة مزعومة بكل ما تملك من تكنولوجيا، وآلات، وآليات، وطاقة بشرية ومادية، أمام هؤلاء.. من المنتصر فيهم ومن المهزوم؟ لو سألت رجلاً حيادياً لا يعرف الطرفين فإنه سيؤكد لك انسحاق الأخير وليس فقط هزيمته، لكننا لسنا ذلك الرجل لأننا منحازون لنا، للحقيقة التي نملكها وحدنا ولا يملكون منها سوى القلق بشأن أنهم غير حقيقيين.

لا يسعفني خيالي أن أرى الرجال يكتمون أمرهم كل هذا الوقت، يخططون ويرتبون بهذه الدقة، يحفرون بهذا العزم، يستكشفون النفق كل يوم، ينفذون أكبر عملية هروب في تاريخ الاحتلال، وأقوى صفعة على وجهه، وهم بذلك الثبات الانفعالي، جالسين ساعةَ التريّض في فناء السجن، يتحدثون كأنهم آمنوا بالحديد إلى الأبد. 

يخبروننا بأن طول الأمد لا يعني أنه إلى الأبد، وأن الحرية لا يدفنها لحظةً عشرون عاماً في السجن، وأن السجين من ذلك النوع لا ينسى حريته، ولا ينتظر الإفراج بقدر ما ينتظر اللحظة التي سيفرج فيها عن نفسه، لا بعفوٍ في عيد ديني أو وطني، ولا حتى بصفقةٍ في يومٍ مبين، وإنما هو وحده الذي يعقد الصفقة مع الأرض، سأعبر من خلالك، وأعطيك روحي ودمي، بل إن الأرض هي التي تخرج من المفاوضات مَدينةً لهم، لأنهم هنا، في ذلك السجن البعيد، لأنهم أرادوا تطهيرها، فقالت لهم تعالوا يا ولاد! وأخذتهم في حضنها، تخفيهم، وتمر بهم من ذراع المأسورة، إلى ذراعها الطليقة، فيقبلون يدها الحرة، وينطلقون ليأتوا بأصدقائهم، ليفكوا الكلابْش من رسغها الذي في الداخل.

هذا هو مفهوم المقاومة ببساطةٍ شديدة، وبشرحٍ موجز لا يخل بالمعنى؛ أعطِه احتلالاً بطائرات، وقل له اهزمه، سيهزمه، ويدمر الطائرة، ويأسر الطيار، وهكذا يوماً بعد يوم، حتى يسترجع الأرض، ويثأر لعشرات السنين ومن ماتوا خلالها برصاص القناص الواقف على برج السجن، يطلق الرصاص على الذبابة التي يشكّ فيها، بينما يعبر من تحت قدميه، ستة رجال، مُخطّرين، يشقون طريقهم عنوةً نحو الشمس.

الشمس؟ تلك التي كانت في الخارج، واقفةً ترقبهم، تخفف حموَتها عليهم، تتلكأ في الطريق حتى لا تكشفهم، تصفق من بعيدٍ بصوتٍ يسمعونه وحدهم، وتأبى أن تصيب عين الجندي المكلف في برج المراقبة حتى لا تنبهه للصباح، حتى إذا أتم الرجال خروجهم، وانتزعوا حريتهم، وتنفسوا بعمقٍ لأول مرة منذ سنوات طويلة جداً، ظهرت الشمس في هيئتها كاملة، تحرق بخيوطها الضباط بعدما اكتشفوا الصفعة على قفا "إسرائيل" العريض، وتضحك، وهم ما زالوا مذهولين، ووحدها تعرف أين ذهبوا، ووحدها رافقتهم في الساعات الأولى، وإذا أراد المحتل إلى أين فروا، نقول له: "اسأل الشمس".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد