صدرت في العام الحالي الترجمة العربية لكتاب الباحث والأكاديمي النرويجي توماس هيجهامر (القافلة: عبدالله عزام وصعود الجهاد العالمي)، والذي صدرت نسخته بالإنجليزية في عام 2020، وهو كتاب ضخم يتجاوز 816 صفحة. عندما قرأت الكتاب وجدت هيجهامر يشكر في عدة مواطن الباحث والأكاديمي الفرنسي ستيفان لاكروا على توفيره معلومات قيمة ساعدت في إتمام الكتاب، بل وأشار هيجهامر إلى أن لاكروا على وشك إصدار كتاب جديد يتناول فيه تاريخ التيارات السلفية المصرية، بعنوان (تاريخ اجتماعي وسياسي للسلفية المصرية).
تلك الإشارة العابرة أعادت إلى ذهني عدة لقاءات مباشرة جمعتني بستيفان لاكروا في مصر، كان أولها خلال الاعتصام أمام مدينة الإنتاج الإعلامي أثناء أحداث الاتحادية عام 2012، وثانيها وأطولها في محل جروبي الشهير بالقاهرة، وآخرها بمعرض الكتاب في بداية عام 2013، حيث كان لاكروا يهتم آنذاك بدراسة ظاهرة المجموعات السلفية الثورية التي برزت مع ثورة يناير، وبالتحديد معرفة أين كانت تلك المجموعات قبل الثورة، وما أفكارها الأساسية، وما طبيعة العلاقات بين بعضها البعض، ولماذا لا تندمج في كيان واحد، وهي نقاط مهمة وحساسة تدل على ذكاء ومتابعة مميزة. ولفت انتباهي آنذاك إجادة لاكروا للعربية بطلاقة، واتسامه بالاطلاع الجيد فيما يسأل عنه فضلاً عن حرصه على فهم الظاهرة محل البحث عبر لقاءات مباشرة مع صناع الأحداث دون الاكتفاء بدراسة الظاهرة عن بعد، أو من خلال قراءة الكتب والدراسات المنشورة عنها فقط. وعند اطلاعي على السير الذاتية لهيجهامر ولاكروا باعتبارهما أبرز باحثين أوربيين حالياً في التيارات الإسلامية لاحظت أنهما تتلمذا على يد جيل كيبل. وهنا يأتي السؤال من هما توماس هيجهامر وستيفان لاكروا بشكل أكثر تفصيلا؟
جيل كيبل وتلميذاه
جيل كيبل من مواليد 1955، وبرز اسمه كأحد أبرز الباحثين الفرنسيين في التيارات الإسلامية خلال حقبة الثمانينات، ووفق سيرته الذاتية فهو مستعرب ومتخصص في قضايا الشرق الأوسط المعاصر والمسلمين في الغرب. وهو يجيد اللغات الفرنسية والإنجليزية والعربية والإيطالية. وقد عمل بمصر من عام 1980 إلى 1983 كباحث في مركز (سيداج) الفرنسي، ما ساعده في التعرف عن قرب على المجتمع المصري. ثم اشتهر كيبل في العالم العربي عام 1988 عقب نشر ترجمة كتابه عن التيارات الإسلامية المصرية في عهد السادات تحت عنوان (النبي والفرعون)، بينما عنوان الكتاب الأصلي بالفرنسية في عام 1984 هو (الإسلاميون المتطرفون في مصر: جذور الإسلام الراديكالي). وقد عمل كيبل كأستاذ في معهد العلوم السياسية بباريس، وأشرف على عدد من أبرز الباحثين الأوربيين مثل ستيفان لاكروا، وتوماس هيجهامر.
ستيفان لاكروا فرنسي من مواليد 1978، يعمل أستاذاً مساعداً للعلوم السياسية في معهد باريس للشؤون الدولية، وسبق له العمل في مركز (سيداج) الفرنسي بالقاهرة، وأعد رسالته للدكتوراه تحت إشراف جيل كيبل، وتناول فيها تجربة تيار الصحوة في السعودية، ونُشرت باللغة العربية في عام 2012، بعنوان (زمن الصحوة: الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية)، حيث استغرق إعدادها 4 سنوات تنقل خلالها لاكروا بين السعودية والكويت والبحرين والإمارات ومصر والأردن وبريطانيا. ومن اللافت أن ستيفان يفوق أستاذه كيبل في عدد اللغات التي يتحدثها، حيث يتحدث 6 لغات هي الفرنسية والإنجليزية والعربية والإسبانية والروسية والألمانية، وهو ما يفتح أمامه مجالاً هائلاً من المصادر المتنوعة التي لا تتاح لمن يتقن عدداً أقل من اللغات. وقد عمل لاكروا لفترة مستشاراً لمجموعة الأزمات الدولية فيما يخص السعودية.
أما توماس هيجهامر، فهو باحث نرويجي حصل على شهادته الجامعية من فرنسا في عام 1996، وحصل على الدكتوراه من فرنسا في رسالة نُشرت لاحقاً بالعربية في 2013 بعنوان (الجهاد في السعودية: قصة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب). وقد استغرق إعداد الرسالة 4 سنوات من عام 2004 إلى 2008 شملت سفره 5 مرات إلى السعودية. ويتحدث هيجهامر خمس لغات هي النرويجية والإنجليزية والفرنسية والعربية والألمانية. وقد تتلمذ هيجهامر على يد جيل كيبل. واستغرق تأليف كتابه (القافلة) الصادر مؤخراً ما يقارب 13 عاماً زار خلالها العديد من الدول مثل فلسطين المحتلة وأفغانستان وباكستان والسعودية وبريطانيا وفرنسا والأردن والولايات المتحدة، من أجل تتبع مسار حياة الشيخ عبدالله عزام. وفي ظل إلمامه بالتيارات الإسلامية فقد أدلى توماس بشهادات أمام البرلمان النرويجي في 2006، ومجلس الشيوخ الكندي في عامي 2005 و2010، والكونغرس الأمريكي في 2013، والبرلمان البريطاني في 2014. ويعمل حالياً كباحث أول في مؤسسة أبحاث الدفاع النرويجية. وقد شارك هيجهامر مع لاكروا في عدة دراسات وكتب مشتركة من أبرزها الكتاب الذي دوّناه عن تجربة جهيمان العتيبي بالسعودية والمنشور بالعربية في عام 2013 تحت عنوان (حتى لا يعود جهيمان: حفريات أيديولوجية وملاحق وثائقية نادرة).
عوامل التميز
من واقع لقاءاتي مع ستيفان لاكروا، فقد لاحظت اتسامه بسعة الاطلاع والدقة، حتى إنه في لقاء عقب على مساعده حين استشهد بكتاب لثروت الخرباوي قائلاً إن تلك النوعية من الكتب لا تصلح كمصادر للاعتماد عليها علمياً. لكن عوامل التميز الذاتية لا تكفي لتفسير أسباب قوة وعمق كتب ودراسات لاكروا وهيجهامر، إنما يُضاف لها البيئة العلمية المحفزة على البحث والدراسة، وهو ما يتجلى في توفير دعم مالي وشبكة علاقات تتيح للباحثين السفر لعدة دول للقاء صناع الأحداث والمصادر الأولية، فضلاً عن التفرغ لتعلم اللغات الأجنبية من أجل الاطلاع على أكبر قدر من المصادر بلغتها الأصلية، والاستعانة بعدد من المصادر المحلية لتوفير كتب نادرة وجمع المعلومات. ففي أحد اللقاءات مع لاكروا شاهدت كيف أحضر له بعض الباحثين المصريين عدداً من الكتب والبيانات، النادرة التي صدرت قديماً عن بعض التيارات الإسلامية المصرية، وهو ما لا يتيسر بسهولة أمام الباحثين العرب الذين يعملون بجهود فردية وموارد ذاتية. كذلك نجد هيجهامر يوجه شكراً إلى وزارة الخارجية الهولندية ومؤسسة أبحاث الدفاع النرويجية وجهات أخرى على تكفلها بنفقات مشاركته وآخرين في مؤتمر عن التيارات السلفية في عام 2007، نُشرت الأوراق المقدمة فيه باللغة العربية لاحقاً في كتاب بعنوان (السلفية العالمية).
ورغم ما سبق، فإن انتماء الباحثين لثقافة أجنبية يجعلهم أحياناً يقعون في بعض الأخطاء الجلية مثلما وقع لهيجهامر في كتابه القافلة، عندما تحدث عن أن الشيخ عبدالله عزام اخترع تصنيفاً جديداً للتوحيد أطلق عليه (التوحيد العملي)، في حين أن مصطلح التوحيد العملي مستخدم في كتابات علماء المسلمين من قبل عبدالله عزام، وذلك في سياق تقسيم التوحيد إلى توحيد علمي وتوحيد عملي. وكذلك تبني التفسيرات المادية في تحليل مواقف بعض الشخصيات الإسلامية من قبيل عزو انتقاد الشيخ حمود الشعيبي لبعض السياسات السعودية، من منظور حنقه على عدم تعيينه عضواً بهيئة كبار العلماء، لا من منظور خياراته الدينية والشرعية.
وفي الختام، أحسب أن تجارب جيل كيبل وهيجهامر ولاكروا قابلة للاستفادة من جوانب قوتها في إعداد باحثين عرب، تكون لديهم نقطة أكثر تميزاً، وهي عمق الالتصاق بالقضايا العربية محل البحث، وهو ما سيجعلنا نطلع على التجارب الإسلامية والعربية، بشكل عميق بعيون عربية في حال توافر الموارد اللازمة لدعم قدراتهم البحثية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.