عبد الرحمن بن معاوية بن هشام الأموي، أو عبد الرحمن الداخل (731– 788م) محيي الدولة الأموية ومُعيد حكم الأموية لشبه الجزيرة الأيبيرية (الأندلس)، الطريد الذي فرَّ من جحيم بطش العباسيين في رحلة استمرت أربع سنوات إلى الأندلس ليؤسس لحكم ظلت دولته فيه 400 عام.
وصل عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس وتحديداً إلى فضاء البيرة، لا يمتلك شيئاً إلا سيفه واسمه وتاريخه السياسي وتجاربه خلال رحلة الفرار إلى أخواله في المغرب، واستغل فرصة التجارب بين أقطاب الأندلس خاصةً من العرب المقسّمين إلى زيديةٍ وقيسيةٍ ويمنيةٍ وغيرها إلى أن فرض نفسه رقماً في المعادلة، وقام بإخضاع كل الخصوم إما بالمشاركة وإما بقوة السيف، إلى أن استقرت الأمور إلى ما استقرت إليه ورواها لنا التاريخ، ليؤسس لدولة حكمها أحفاده 400 منذ تأسيسها.
بداية أبي المطرف (وهي كُنية ابن معاوية) كان يرسمها القدر، فالصُّميل بن حاتم، وهو زعيم القيسية وبعد انهيار الدولة الأموية في دمشق- وبطبيعة الحال في الأندلس- قام بعقد صفقة بين القبائل اليمنية والمضرية على تولي يوسف الفهري، وهو من قريش، إمارةَ الأندلس، على أن يكون حاكماً اسمياً يدين له بالولاء، لكن سرعان ما تبدلت الأحداث وبدأ الغضب يتخذ من القبائل اليمنية موقف الازدياد، فتحالفت مع ابن معاوية عن طريق كتلة مواليه لإنهاء إمارة الفهري والصميل بن حاتم، وهذا ما حدث فعلياً في موقعة المصارة في 138 هـ والتي انتهت بنصر حاسم للأمير الأموي دخل عقبه قصره الشهير في قرطبة.
استمر الداخل في تفكيك التحالفات المناوئة له واستمالتها إليه شيئاً فشيئاً حتى آلَ له حكم الأندلس، وإن اضطر أحياناً إلى أن يواجه في طريقه بعضاً من حلفائه السابقين كزعماء القبائل اليمنية، ولكن الواقع فرض نفسه وكانت عقليته التي تتطلع لبناء الدولة تسبق الزعماء القبليين المنغلقين على أنفسهم، بسنوات ضوئية.
بالنظر إلى التاريخ وما حدث في الأندلس مقارنة بالإمكانات، نجد أن ما حدث هو أشبه بالمستحيل مقارنة بالظروف والإمكانات الشخصية وتعملق الخصوم وتمترسهم أمام الدولة والعصبية والمال، وهذا لم ينجزه أبو المطرف فقط، فأوكتافيوس الإمبراطور الروماني، أو أدولف هتلر المستشار الألماني، وغيرهما كزعماء سياسيين- بغض النظر عن سلوكهم- بدأوا تقريباً طريقهم السياسي من العدم إلى السيطرة المطلقة والحكم الشمولي.
ما علاقته بليبيا؟
في ليبيا وبعد ثورة فبراير تتبدل التحالفات بين الفينة والأخرى مسببة حالة من اللااستقرار خاصة في العاصمة، بين سياسيين وقادة قوى عسكرية وزعماء سياسيين وأمراء حرب، مربكين المشهد ومسببين حالة من عدم الاستقرار المحلي ومعيشةً ضنكاً للمواطن الذي تتبدل عليه الظروف وتتشكل وتنفرط أمامه التحالفات في أوقات أسرع مما يمكن أن نتصور.
بعد انتهاء العدوان على العاصمة طرابلس والذي استمر 14 شهراً ابتداءً من أبريل 2019 حتى يونيو/حزيران 2020، وصلت حكومة الوحدة الوطنية لسدة الحكم بعد انتخابها في ملتقى حوار وطني أدارته الأمم المتحدة في جنيف في الخامس من فبراير من هذا العام. المجلس الرئاسي المنتخب وحكومة الوحدة الوطنية التابعة له ما زالت تفشل كل يوم في البدء في فهم المشهد، فيما هو أشبه بحكم يوسف الفهري في الأندلس، فهي لم تنل عن أدائها الرضا داخلياً ولا خارجياً، بل إن الوضع يزداد تأزماً كل يوم، خاصةً من جانب الاستقطاب العسكري الحاصل في ليبيا ككل بين كتل الكرامة والبركان وسبتمبر وبالأخص الوضع المشوش في العاصمة طرابلس بين قادة القوى العسكرية والأجهزة الأمنية الذين يتناحرون بكل قوة حول من يحوز الغنيمة، وما أدراك ما الغنيمة..!
تركيبة الحكم الحالية- ومع احترامي الكامل لأدائهم ومجهوداتهم- مكونة من شخصيات مغمورة سواءً على صعيد المجلس الرئاسي أو الحكومة، فالمجلس الرئاسي برئاسة الدكتور المنفي يبدو أنه يواجه عراقيل عدة من حيث الانسجام بين أعضائه وتحديد الأوليات وتعاملهم مع القوات العسكرية شرقي البلاد، أيضاً التداخل مع حكومته التي يبدو أنها غير منسجمة على الإطلاق، وبينما يعاني البلد على جميع الأصعدة يفكر أعضاء من المجلس الرئاسي في الاستقالة، رغم أنهم كانوا على علم بالتحديات لحظة تقدمهم لخوض غمار الترشح في جنيف، أو تجدهم يغيبون في إجازات طويلة تاركين الليبيين على صفيح ساخن وتتقاذفهم أمواج التجاذبات والاستقطابات.
تعقيد المشهد الخارجي حول ليبيا ليس أحسن حالاً من الوضع الداخلي، فبينما كانت الأوضاع الداخلية مشتتةً في الأندلس كان الخارج من فرنجة وصليبيين وقشتاليين وعباسيين ينتظرون السقوط الكبير حتى يحوزوا الأندلس، وخلال حكم ابن معاوية حدث عدد من المحاولات والمعارك وانتهت لصالحه مُقويةً شوكته أمام خصوم الخارج. عوداً لليبيا فالولايات المتحدة تبحث عن استقرار يوقف التمدد الروسي بل يبعده عن المنطقة، فيما ترى تركيا أن اصطفافها مع طرف الوفاق في معركة طرابلس لا بد أن يجعل لها رصيداً في الدولة. مصر بدورها تمتلك حدوداً من آلاف الكيلومترات مع ليبيا وتبحث عن أمنها واستقرارها أولاً، ثم عن حصة في الاستثمار في البلد الجار، ناهيك عن فرنسا وأطماعها في الجنوب ومناطق نفوذها في أفريقيا، وإيطاليا وقصة الغاز وغيرها من الدول الكبرى التي تبحث عن مخرج مُرضٍ بوضعية الكل رابح (win-win situation).
مازال المشهد في ليبيا أفضل وضعية من المشهد العراقي أو اللبناني، لكنه قد ينزلق إذا ما تعادلت القوى، فتحالفات ابن معاوية انتهت لإنتاج دولة، بينما وصل اتفاق الطائف باللبنانيين لتكريس المحاصصة وتحقيق التوازن، وهنا تنهار الدولة على إثر التناحر المبني على المحاصصة وخاصة الطائفية أو العرقية والدينية منها. ستخوض ليبيا انتخابات قادمة علّها تخرج بمخرجات قد تكون قادرة على تحقيق التحالفات من أجل الدولة، ثم تُحور كل المتحالفين لهدف واحد ألا وهو بناء الدولة. تَقلُّب التحالفات في ليبيا بين أمراء الحرب والقوى العسكرية والسياسيين يحدث كل يوم تقريباً في دلالة على أنه لا ثوابت سوى المصالح الضيقة، وخصم اليوم قد يكون صديق الغد، لكن هذه الخلطة لا تزال تحتاج إلى جامعٍ واحد يجمع هذه الأطراف ثم يقصي المعرقلين دون هوادة؛ لينتهي عصر الفوضى ويبدأ عصر الدولة، كما فعل أبو المطرف قبل ألف ومئتي عام من يومنا هذا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.